ذكرياتُ جيلٍ مع الدراما التاريخية!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 19 يوليه 2019 - 10:50 م
بتوقيت القاهرة
«أرْجِعى الأمسَ الخليّ ذكِّريِنا واسألى.. أين زريابُ.. وأين الشِّعرُ.. أين الموصلى؟
أين ما كان لنا فى الزمانِ الأوَّلِ؟»...
بهذه الكلمات البسيطة القوية غنّى على الحجار (من كلمات عبدالسلام أمين وألحان الموسيقار العبقرى عمار الشريعى) تترَ المسلسل التاريخى الجميل «هارون الرشيد» كما عرفه الناس وذاع بينهم. سنوات طويلة مرّت منذُ شاهدتُ هذا المسلسل للمرة الأولى، وشاهدته مرة أو اثنتين بعد ذلك، ولم يقلّ شغفى (رغم مرور العمر) بهذا المسلسل، وها أنذا وبالصدفة أعيد مشاهدته مجددًا بعد أن اكتشفت أنه يذاع على قناة النيل للدراما (ما تبقى لنا من رائحة التليفزيون المصرى فى زمنه الذى لن يعود).
أظن أننى أنتمى إلى جيل شُغف بجنون بكل ما هو «تاريخى»؛ أفلاما ودراما وكتابةً إبداعية، بل ومسلسلات إذاعية وبرامج خاصة عن شخصيات ومشاهير. تعرفتُ على نجيب محفوظ، أوّل ما تعرفت، وأنا المرحلة الإعدادية، من رواياته التاريخية «عبث الأقدار»، «رادوبيس» و«كفاح طيبة». وأحببتُ الفيلم التاريخى عندما شاهدتُ وأنا طفل صغير فى الابتدائية فيلم «الناصر صلاح الدين» ليوسف شاهين، واحتلت صورة الفنان الراحل أحمد مظهر مخيلتى تمامًا فاستقرت فيها ولم تغادرها حتى الآن باعتباره صلاح الدين الأيوبى! ورغم المحاولات العديدة التى بذلتها لتبديد تلك الصورة، ومحاولة خلق صورة أخرى متخيلة، فإننى فشلت فى ذلك فشلا ذريعا!
كما تعلق وجدانى بالدراما التاريخية منذ شاهدتُ مسلسل «محمد رسول الله» على سذاجة إنتاجه وإخراجه، ثم نما هذا الشغف وتزايد مع مشاهدة مسلسلات أخرى؛ مثل: «رفاعة الطهطاوى»، «الظاهر بيبرس»، «الطبرى» المؤرخ، «عمر بن عبدالعزيز»، «الإمام الأعظم أبو حنيفة النعمان»، و«الإمام الشافعى»، و«قضاة الإسلام».. فضلا على المسلسلات التى تعرضت لتاريخ مصر مثل «بوابة الحلوانى» وكل الأعمال المأخوذة عن روايات نجيب محفوظ الواقعية الاجتماعية هى تاريخية بامتياز أيضًا (راجع مسلسل «بين القصرين» و«قصر الشوق» و«السكرية» بل يمكن اعتبار «حديث الصباح والمساء»، بدرجة ما، مسلسلا اجتماعيا تاريخيا بامتياز).. ويمكن أن نضيف طبعا دراما «شيخ العرب همام» للقدير عبدالرحيم كمال.
وكذلك الأعمال التى عالجت سير الأعلام المشاهير فى العصر الحديث؛ مثل مسلسل «الأيام» عن سيرة عميد الأدب العربى طه حسين، و«العملاق» عن سيرة المثقف العصامى الكبير عباس العقاد، ومسلسل «الإمام محمد عبده»، و«قاسم أمين»، و«أم كلثوم».. إلخ.
ومنذ تعلق قلبى بالدراما التاريخية، وأنا فى سن صغيرة للغاية، صارت تلك المسلسلات هى البوابة السحرية الأولى التى أجتاز عتباتها بكامل الإرادة والانبهار والشغف لكى أنتقل من عالم التلقى السلبى والمشاهدة المنبهرة إلى البحث والقراءة والاكتشاف. كانت الدافع الأكبر فى إيقاظ الحس النقدى مبكرا بالتعليق والبحث عن الأصول التاريخية التى استقت منها هذه الأعمال أحداثها والمقارنة التى لا تفتر بين هذا الأصل والمعالجة المقدمة على الشاشة.
كانت مشاهدة كل مسلسل تاريخى (سواء كنت أتابعه فى رمضان أم فى غيره من شهور السنة) عتبة حقيقية لخوض رحلة ممتعة لجمع أشتات المادة التاريخية والمعلومات التى لا تنتهى المتعلقة بموضوع هذا المسلسل أو ذاك، تحولت تلك الرحلة التى تكررت عشرات المرات منذ كنتُ فى العاشرة (وربما قبلها بقليل) إلى تجربة أشبه برحلة باحث الدراسات العليا الذى ينقب ويجمع مادته من بطون الكتب والمصادر القديمة والمراجع الحديثة بقدر ما تيسر له، ثم يبدأ مرحلة الترتيب وضم المتشابه ومقارنة الروايات والتمعن فى قراءة النصوص، ثم تأتى مرحلة التأليف الضمنى التى كانت تعنى الوصول إلى صورة شبه واضحة ومحددة المعالم لتلك المرحلة التاريخية أو تلك الشخصية أو ذلك العصر.. إلخ.
وربما كانت هذه الممارسة المبكرة هى السبب الرئيسى فى تنمية الحس التاريخى لدىّ (إذا جاز الوصف أو التعبير) ففى كل مرة كنت أخرج من مشاهدة مسلسل تاريخى معتبر بكم زاخر وهائل من قراءاتٍ تالية وكتبٍ كنت أقرأها بفضول وأبحث عن غيرها بحماس كبير.
ودون أن أدرى وقعت فى أسر التاريخ، وقراءته، ومشاهدته، والبحث فيه أيضًا. والفضل الأول فى ذلك بلا شك يعود إلى مجد الدراما التاريخية على شاشة التليفزيون المصرى فى حقبتى الثمانينيات والتسعينيات التى اندثرت أو كادت تندثر الآن للأسف الشديد.. (وللحديث بقية).