حين يكون الحديث دواءً.. كيف تتزامن أدمغتنا عند التعاطف؟

مواقع عالمية
مواقع عالمية

آخر تحديث: السبت 19 يوليه 2025 - 8:56 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع psyche مقالا للكاتب مات هيوستن عن التزامن العصبى بين الأفراد أثناء الحديث العاطفى؛ حيث فى عالم تتسارع فيه الأحداث وتتكدّس فيه الضغوط، نحتاج أحيانًا إلى أكثر من مجرد حلول عملية أو نصائح سريعة. نحتاج إلى من يصغى لنا بصدق، من يترك لنا مساحة لنبوح، ويفتح قلبه لنستريح. هل تساءلت يومًا لماذا نشعر بالراحة بعد مشاركتنا ما يؤلمنا؟ هل هناك تفسير علمى لهذا الارتياح المفاجئ الذى نشعر به لمجرد أن شخصًا ما استمع إلينا بصدق؟ ما لا يعرفه كثيرون أن هذا النوع من التفاعل الإنسانى، البسيط فى مظهره، يحمل فى طياته عمليات عصبية دقيقة تحدث فى أدمغتنا. نعم، نحن لا نرتاح فقط لأن شخصًا ما أنصت لنا، بل لأن عقولنا تفاعلت معًا فى تناغم عصبى عميق.
فى هذا المقال، نغوص فى علم «تزامن الأدمغة» لنفهم كيف يصبح الحديث العاطفى دواءً حقيقيًا، لا نُشعره فقط، بل نعيشه عصبيًا.. نعرض من المقال ما يلى:
الإنسان كائن اجتماعى.. عصبى أيضًا!
منذ لحظات الطفولة الأولى، نحن نبحث عن الأمان من خلال الآخرين. سواء من خلال لمسة أم، أو حضن أب، أو حتى ابتسامة عابرة، تبدأ أدمغتنا فى التعلم أن التواصل يمنحنا الراحة. هذا لا يتوقف عند الطفولة، بل يمتد طوال الحياة. فى علاقات الصداقة، وفى العمل، وفى الحب، نحن نحتاج إلى التواصل لنشعر بأننا بخير.
لكن الحديث عن المشاعر ليس مجرد ممارسة اجتماعية، بل هو عملية معقّدة تنشط مناطق معينة فى الدماغ. العلماء لطالما تساءلوا: كيف يمكن للتفاعل بين شخصين أن يُحدث تغييرًا حقيقيًا فى حالتيهما النفسية؟ هل أدمغتنا تتفاعل سويًا بطريقة معينة عند الحديث والتعاطف؟
ما هو تزامن الأدمغة؟
«تزامن الأدمغة» أو Interbrain Synchronisation هو ظاهرة عصبية تحدث عندما تتناغم أنشطة أدمغة شخصين أثناء التفاعل الاجتماعى، بحيث تبدأ موجات الدماغ لدى كل طرف فى التوافق أو العمل بنمط مشترك. يشبه الأمر وكأن الدماغين يتحدثان معًا بلغة خاصة بهما.
وقد أظهرت أبحاث متقدمة، باستخدام تقنيات مثل «المسح الوفير Hyperscanning»، أن هذا التزامن العصبى يحدث تحديدًا أثناء لحظات الدعم العاطفى الحقيقى، مثل التعاون، أو الاستماع المتبادل، أو حتى الإمساك بيد شخص فى لحظة ألم.
العلم يكشف: الارتياح العاطفى له نمط فى الدماغ
فى عام 2018، كشفت دراسة حديثة أن مجرد الإمساك بيد شخص متألم قد يؤدى إلى تزامن نشاط الدماغ بين الطرفين، وكلما زاد هذا التزامن، قلّ شعور الشخص بالألم. هذه النتيجة أثارت فضول العلماء: ماذا لو كان للكلام نفس التأثير؟ ماذا لو كانت المشاركة اللفظية للألم قادرة أيضًا على تخفيف المعاناة من خلال تزامن الأدمغة؟
هذا هو ما حاولت دراسة حديثة استكشافه من خلال تصميم تجربة حية بين شخصين غريبين، يتشاركان تجربة عاطفية.
دان وستيف: تجربة حية للمشاركة والتعاطف
فى هذه التجربة، التى أُجريت فى مختبر علم الأعصاب، تم استدعاء شخصين لا يعرفان بعضهما من قبل: «دان» و«ستيف»، وهما رجلان فى نفس العمر تقريبا، ومن نفس اللغة والخلفية الثقافية.
جلس دان وستيف وجهًا لوجه، وتم تزويد كل منهما بغطاء رأس يستخدم تقنية تُدعى fNIRS، وهى وسيلة غير جراحية لقياس نشاط الدماغ فى الوقت الفعلى. طُلب من دان أن يشارك تجربة شخصية مؤلمة – فقد انفصل مؤخرًا عن شريكته بعد علاقة دامت ست سنوات. كانت مهمة ستيف أن يصغى فقط، ويُبقى على اتصال بصرى، ويطرح أسئلة تعاطفية، دون إصدار أحكام أو مقاطعة.
خلال هذه الدقائق الخمسة، تم تسجيل نشاط دماغ كل من دان وستيف، وبشكل خاص فى منطقتين:
• القشرة الجبهية الجانبية الظهرية (dlPFC) – وهى المسئولة عن تنظيم المشاعر والتحكم فى الانفعالات.
• التلفيف الجبهى السفلى (IFG) – وهى منطقة مسئولة عن تقليد الحركات ونبرة الصوت، وتلعب دورًا فى التفاعل الاجتماعى.
النتائج: عندما يتلاقى الدماغان
أظهرت التحليلات أن نشاط دماغ دان وستيف بدأ فى التزامن تدريجيًا، خصوصًا فى المنطقتين المذكورتين. ليس ذلك فحسب، بل وجد الباحثون أن كلما زاد هذا التزامن العصبى، زاد شعور دان بالارتياح بعد الحديث. لقد شعر بأن أحدًا سمعه وفهمه، وشاركه الحمل العاطفى.
وتُظهر هذه النتائج أن الحديث مع شخص متعاطف لا يُشعرنا فقط بالراحة نفسيًا، بل يؤدى إلى تفاعل عصبى مشترك يخلق نوعًا من التناغم العميق الذى يخفف الألم ويُعيد التوازن العاطفى.
كيف يحدث هذا التفاعل؟
تخيل ما يحدث: يبدأ دان بالحديث عن مشاعره، ويركز ستيف فى الاستماع. من دون وعى، يبدأ كلاهما فى مطابقة الإيماءات، ونبرة الصوت، وحتى حركات الرأس. هذه «المرآة السلوكيةى تُنشّط منطقة IFG لدى كل منهما، وتُحدث نوعًا من التقليد اللاواعى الذى يعزز الشعور بالتقارب.
فى الوقت نفسه، يعمل الجزء الخاص بتنظيم المشاعر (dlPFC) لدى كل منهما على ضبط الانفعالات، مما يؤدى إلى حالة من تنظيم المشاعر المشترك. دان يحاول تهدئة نفسه، وستيف يساعده عبر تفاعلات دقيقة، كالابتسام، أو طرح سؤال بعناية، أو الإيماء بالتعاطف.
ما الذى يجعل التفاعل ناجحًا؟
• الصدق فى التعبير: كلما كان الشخص أكثر انفتاحًا، زادت فرص التزامن.
• الاستماع النشط: الإنصات الصادق يولّد تفاعلًا عصبيًا حقيقيًا.
• التواجد الكامل: الحضور الذهنى مهم بقدر الحضور الجسدى.
هذه العوامل تخلق بيئة مثالية يُمكن للدماغين فيها أن «يتناغما»، ويُخفف أحدهما ألم الآخر من خلال التواصل العميق.
• • •
يختتم الكاتب، فى المرة المقبلة التى تجد فيها نفسك مرتاحًا بعد حديث صادق، أو حين تنصت لشخص يشكو لك، تذكّر أنك لا تشاركه فقط بالكلمات، بل تشارك دماغك معه فى لحظة حقيقية من الاتصال.
لقد بيّن العلم أن أدمغتنا مصممة ليس فقط للتفكير، بل للتواصل مع أدمغة الآخرين، وأن التعاطف – هذا الشعور الإنسانى العميق – ليس مجرد عاطفة، بل هو لغة عصبية تتحدث بها عقولنا معًا فى صمت.
خلاصة القول، حين نتحدث عن الارتباط الإنسانى، لا نعنى فقط الألفة أو الصداقة، بل نقصد تلك اللحظات الخفية التى تلتقى فيها الأرواح عبر الكلمات، وتتماهى فيها العقول فى صمتٍ خفى. لقد أثبت العلم أن التفاعل العاطفى لا يؤثر فقط على الحالة النفسية، بل يخلق تزامنًا عصبيًا فعليًا بين دماغين، يتشاركان الحِمل، ويضبطان الإيقاع العاطفى لبعضهما البعض. فى زمنٍ يتجه أكثر نحو «الفردنية» والتقنيات الباردة، تظل لحظة صدق واحدة، وحديثا دافئا، كفيلة بأن تعيد لأدمغتنا توازنها، ولقلوبنا طمأنينتها. فلنُعد للتعاطف قيمته، وللإنصات حضوره، لأن الحديث ليس مجرد كلمات.. بل دواء عصبى، وموسيقى خفية تعزفها أدمغتنا حين نكون إنسانيين بما يكفى.
مراجعة وتحرير: يارا حسن
النص الأصلى:
https://bitly.cx/m6gL

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved