حكاية غصن من شجرة

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الثلاثاء 19 أغسطس 2025 - 7:50 م بتوقيت القاهرة

غريب وغزير ما فعلته الأيام بحياتى، وغريب وغزير ما فعلته أنا بأيامى. قضيت عصر يوم أمس ومساءه والليل الرابط بين يومين، قضيتها أفكر فى مجمل الأيام منذ اليوم الذى قررت فيه الدولة المصرية تعيينى فى الهند ملحقًا دبلوماسيًا بسفارتها لدى عاصمتها، نيودلهى. جلست ونمت أفكر استجابة فيما يبدو أو خضوعًا لآلة عاطفية هيمنت منذ اللحظة التى وقفت فيها عند الباب أودع ابنى وبعض عائلته فى رحلتهم عائدين إلى مقرهم الدائم فى الولايات المتحدة. تعززت هذه الحالة فى اليوم التالى خلال استقبالى البعض الباقى ليكتمل بهما مراسم توديع هذا الغصن من شجرة عائلتى الصغيرة، غصن نادر فى نوعه وفى تناسق مكوناته.

• • •

فكرت أول ما فكرت فى الصدفة الغريبة التى جمعتنى بأمهم، شريكتى فى غرس النبتة التى نمت حتى صارت شجرة. لم أتوقع يومها أننى بما طلبت من أبيها كنت فى الواقع أطلب يد عشيرة أطرافها متناثرين بين مدينة فاس المغربية وبنزرت التونسية وعكا الفلسطينية وعاليا وبيروت اللبنانيتين ومنبج ودمشق السوريتين وتابعين أو متبوعين فى دول إسلامية شتى مثل جزر القمور فى شرق إفريقيا.

كان مطلبًا لا يمكن رفضه أن نتوجه فور الزواج إلى موقع القيادة فى مدينة عاليا شرق بيروت، للحصول على المباركة الضرورية من ثلاث سيدات تقدم بهن العمر وازددن تدينًا ولم يتخلفن عن ركب الزمن.

• • •

جاء النجل ثمرة مبكرة لهذه المباركات. بدأ يبعث بنواياه وما يزال جنينًا فى بطن أمه. كدنا نفقده جنينًا لولا براعة الأطباء الصينيين المشرفين على رعاية أمه. كدنا نفقده مرة أخرى عندما احترقت فى بومباى الطائرة التى كانت تنقلنا من هونج كونج إلى القاهرة. مرت الأيام بنا وهو معنا ننتقل به إلى روما ثم سنتياجو ثم بيونس آيرس ثم إلى مونتريال ومنها إلى بيروت فالقاهرة.

• • • 

هنا فى القاهرة اختلفنا، أمه وأنا، حول مستقبله، وبصراحة أكثر حول مستقبلنا معه. كان لا بد من وجهة نظرى أن أتيح له فرصة أن يدرس فى الخارج ليتعلم أكثر. لم أحسب بالدرجة اللازمة حساب نية والدته أن تبقيه إلى جانبها ليستقر أمرنا مجتمعين كعائلة. هى نفسها، ولعله الدافع وراء رغبتها أن يبقى ابنها إلى جانبها، لم تنشأ فى عائلة مستقرة الموقع. الأب من سوريا والأم من لبنان وإن كان بين أهليهما وشائج قربى عديدة مثل معظم عائلات بلاد الشام فضلا عن واقع عائلتها، أقصد عائلتنا، الصغيرة الذى هو أيضا لم يعرف الاستقرار فى دولة بعينها ولا فى مهنة واحدة ولا فى بيئات اجتماعية وثقافية متشابهة أو متقاربة.

• • •

الحاصل أننا، هى وأنا، اختلفنا. فمثل أى شىء آخر تعلق بنشأة وتنشئة هذا النجل كان قرار إيفاده إلى الخارج لتلقى تعليمه العالى من أصعب ما واجهنا من قرارات. تصلبت فى موقفى وقلبى لا يسامحنى على ما أفعل وإصرارى عليه بينما الدموع فى عينى أمه لأيام عديدة لا تتوقف.

• • •

أعرف الآن، وبعد سنين وتجارب عديدة أنه من غير المفيد البكاء على ما حدث أو على ما لم يحدث فى أيام خلت، وبخاصة إذا كان ما حدث قد أخذ وقته من الحوار والتفكير العميق والطويل حتى التوصل إلى رضاء عام. مع ذلك عشنا فترات حرجة، هو هناك يتعلم وينضج ويكتسب صفات وخبرات على أيدٍ، وفى أحضان، غريبة، ونحن هنا نتبادل عن بُعد الإشفاق عليه من برودة الطقس وغدر بعض الناس وبعض الزمن، وحيث لا عائلة ممتدة أو صغيرة تمد أغصانها وفروعها لتحميه أو لتحنو عليه. ساعات عديدة فى الليل كما فى النهار نقضيها فى مناقشة الإجابة عن السؤال: أيها أهم، غياب العائلة الممتدة أم وفرة الزميلات والمساعدات والجارات وبينهن واحدة، حسب أوهام أمه، لا شك تسعى جاهدة ومثابرة للاستيلاء على وحيدها الذى سبق وانتزعته من حضنها طموحات ومغريات مواصلة التعليم والارتقاء المهنى.

• • •

سافر الجراح الكبير وعائلته الصغيرة عائدًا إلى مقر عمله فى الخارج. جاء ومعه نجلاه وأمهما وفتاة «أمريكية» صديقة للحفيد الأكبر لقضاء أسبوع معنا. عاد النجل ورب هذه العائلة الصغيرة بعد أن غابت أمه، غيبها القدر. أما شقيقتاه، وهما أيضًا ربتا عائلتين، فقد شاركتا بكل جوارحهما فى الترحيب بشقيقهما واستضافته، أغدقتا فى الحب والاحتفاء وكأنهما استعارتا للأيام السبعة، مدة الزيارة، روح الأم الغائبة.

• • •

دارت الأيام وعادت برواية غير بعيدة فى التفاصيل عن رواية كتبنا أو عشنا «أنا وأم العيال» فصولها الأولى قبل ستين عامًا أو أكثر قليلًا. فور وصولهم طلب الحفيد الأكبر من إحدى عمتيه مساعدته فى تحقيق حلم عزيز وغالٍ. علقت على طلبه قائلا «هذا الحفيد نجل هذا الأب، والأب نجل هذا الجد، إنها حقا لشجرة مورقة وأصيلة!».

أما الطلب فكان «أريد منك يا عمتى ترتيب قارب أو «فلوكة» مع سائقها ليلة الأربعاء، وهى ليلة يكتمل فيها قمر القاهرة. فليعرف المراكبى مسبقًا أن فى نيتى التقدم لصديقتى رفيقة الرحلة النيلية بعرض زواج، وهى بالمناسبة تنتظره ولكن ليس على هذا النحو. وبالمناسبة أيضًا أتمنى أن يكون لدى المراكبى جهاز يبث موسيقى مناسبة للحالة. أريد منك أيضًا اصطحابى قبل الرحلة إلى جواهرجى لشراء خاتم خطوبة يليق بمكانتى المقبلة كمحامٍ ذائع الصيت بالتأكيد ورجل متعدد المواهب الطيبة كما تمنيت أن أكون».

• • •

رأيت فى عيون الأم دموعًا لعلها من دموع الفرحة ولعلها من دموع الفزعة، فزعة ابتعاد ابنها البكرى عنها ليتزوج بعد ابتعاد أول ليدرس ويعمل ثم ابتعاد ثانٍ نحو مقاعد الدراسة ليزداد مقدرة و«سعرًا» حسب منظومة القيم الأمريكية. بحثت عن والده، نجلى العزيز، لأرى فى عينيه ابتسامة أعرفها جيدًا، ابتسامة الفوز والإنجاز.

• • •

سافروا جميعًا إلى وحشة الغربة، وبقيت وحدى فى بيتى أجتر سعادة أيام عشتها من زمن ولى، وأجتر معها سعادة أيام حلوة أعيشها للتو واللحظة، وأحلم بسعادة لا شك تنتظرنى لأعيشها فى قادم أيامى.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved