الحق في البحر.. الحق في المكان
عاطف معتمد
آخر تحديث:
الثلاثاء 19 أغسطس 2025 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
لا يمرُّ عامٌ دون أن أزور الساحلَ الشمالى الغربى، ذلك الاسمُ الذى يُطلق على ساحل المتوسط الواقع غربَ مدينة الإسكندرية ومُمتدًّا حتى السلوم عند حدودنا مع ليبيا. ويعرف الساحلُ عند أهل المصايف والقرى السياحية باسْم الساحل الشمالى، وكأنه لا يوجَد شمالى إلا هذا القطاع الذى لا يزيد عن 50 % من امتدادِ ساحل المتوسط فى شمال مصر. ويبدو أنَّ ذلك جاء ترجمةً للتقصير فى استخدام 500 كم أخرى تمتدُّ إلى الشرق من الإسكندرية وحتى رفح عند حدودنا مع فلسطين. فساحلُ الدلتا يوصَف ــ فى تصنيفٍ عُنصرى ــ بأنه مَصايف الفلاحين، أما ساحلُ شمال سيناء فما زال بعيدًا عن التنمية العميقة باستثناء بعض شواطئ محدودة فى العريش.
وطيلةَ ثلاثين سنة كان عِلية القوم يتجهون إلى مصايف الساحل الشمال بعد أن تراجعَتِ العجمى والإسكندرية تحت الضغط الشَّعبوى عليها. لكن بدايةً من عام 2020 ظهر مصطلحٌ تَصنيفى جديد فى الساحل الشمالى، إلى الشرق من العلمين أصبح يسمَّى الساحل «الطيب»، وإلى الغَرب من العلمين أصبح يسمَّى الساحل «الشرير»، والوصفُ هنا سببُه التفرقةُ الطبقية بين الأثرياء جدًّا والأثرياء فقط، ومقدار الإنفاق الباذِخ والأسعار الفَلكية لطَبقة جديدة من المصريّين أثروا ثراءً سريعًا بشكل فادحٍ مقارنةً بعموم الشعب الذى لا يجد حقَّه الأدنى فى الوصول إلى البحر.

الحقُّ فى المكان
على الرّغم من أنَّ الجغرافيا تعدُّ واحدةً من العلوم الاجتماعية، حيثُ سمِّيت بذلك لأن المجتمعَ مادتُّها، والناس هدفُها. إلّا أنها لم تكنْ بهذه الصفة دومًا؛ إذ مرَّت بثلاثِ مراحل فى تاريخ تطورها:
• كانت الجغرافيا وقودًا للخيال فى التاريخ القديم حين تأسَّستِ الأساطير والأشعارُ الملحمية والسَّرديات الكبرى فى الأديان القديمة مثل المصرية والبابلية ونظائرها فى الحضارات الفارسية والصينية والهندية واليونانية.
• أصبحَت فى العصور الوسطى وما تَلاها «خادمة للاستعمار» ولم يكن انطلاقُ الحملات التوسُّعية والحربية منذ القرن الخامس عشَر إلا على جناحى «البارود والخريطة». والخريطة هنا هى المادةُ الأساسية لعلم الكارتوجرافيا الذى كان- وما زال- إحدى أهمِّ أدواتِ التحليل الجغرافى. فى هذه المرحلة كانت الجغرافيا وسيلةً فى يدِ الطغاة والمستبدّين والأباطرة والمستَعمرين. واستمرَّت هذه الوظيفة حتى عهدٍ قريب فى منتصف القرن العشرين، وتقوم محلّها الآن أجهزةُ الاستخبارات الجغرافية داخلَ وَزارات الحرب والمخابرات والأمن والشرطة. فأدوارُ كلِّ هذه الأجهزة لا يمكن أن تكتملَ بنَجاحٍ إلا على خرائط دقيقة وتحليل جغرافى سليم.
• ومنذُ منتصف القرن العشرين، ومع ظهور حقبةِ ما بعد الاستعمار، انتبه نفرٌ قليلٌ من علماء الجغرافيا إلى الدور الإنسانَوى لهذا العلم، وراقَبوا ضمائرهم فى أنَّ هذا العلم فى حقيقتِه هو علمُ تَفتيش عن مَواطن الخلل الاجتماعى فى توزيع الثروة والخدمات والسكان والرَّفاه والتركز السكانى، وغيره من تناقضات الفائض والعَوز.
الجغرافيا فى حقيقةِ تَعريفها هى «علمُ التوزيعات المكانية». الهدفُ الرئيس للكشف عن هذه التوزيعات هو المسارعةُ بتحقيق «إعادة التوزيع» من أجل ضَبط الخلل وإصلاح المظالم التى تسبَّب فيها الإنسان. على هذا النحو يمكنك تسميةُ هذا التيار الفكرى فى الجغرافيا باسْم «جغرافية العدالة والمساواة».
الجغرافيا الحقَّة تَكشف عن توزيع الفقر، أين يوجَد السكان الأقلّ دخلًا، ما المناطق التى تعانى من سوء الصَّرف الصحى، ضعف وَرَداءة مياه الشرب، التكدُّس السكنى، توطُّن المرض، التلوث، أين توجَد مناطقُ العجز فى المستشفيات وفقًا لعَدد السكان، مناطق الحاجة لصيدليات، مناطق الحاجة إلى نقاطِ تركُّز أمنية ردعًا للمجرمين، مناطق شحّ مياه الشرب، العَوز فى المدارس والتعليم الأساسى… إلخ.
هل من يسار فى الجغرافيا؟
وحين نطالب بحقِّ الناس فى البحر وعَدم احتكاره على فئةٍ من الأثرياء القادرين دون غيرهم وعدم تَسليع الوصول للبحر إلا على القادرين؛ تَتَعالى أصواتٌ ناقدة تقول إنَّ هذا تحليلًا يساريًّا لا يرى الميزات الكبرى فى دور رجال الأعمال فى خَلق فرص عمل، وحقوق الأثرياء فى أن يعيشوا حياتَهم بأموالهم فى بلادهم. يقف «اليسار» فى الفكر الجغرافى هنا مقابلًا لـ «اليمين» المغالى فى الرأسمالية والطبقية، لا بأس أبدًا من «يسار» صحى فى الجغرافيا، يسار يَنطلق من المسئولية دون أن يُعانى من حقدٍ طَبقى وكراهية للأثرياء، روادُ اليسار فى عديدٍ من دول العالم هم فى الحقيقة أثرياءُ عَرفوا دورَهم وتبنّوا قضايا مَن لا صوت لهم.
وفى كثيرٍ من الأحيان لا يستطيع الفقراءُ أن يتحدثوا نيابةً عن أنفسهم، كيف للمَخطوف أن يتحدث ويبلغ صوتَه إلى الظالم؟ المصدوم المهْضوم لا يكتب مقالًا؛ إما أن يموت أو يَنفجر! هنا تأتى أهميةُ التحليل الماركسى واليسارى فى الجغرافيا فى المدارس الأوروبية الحديثة التى لم تصلْ إلينا فى عالمنا العربى بعد.
لا يجب أن تتركَ الدولةُ هذه المشكلةَ لرأى الأفراد ووجهاتِ نَظر الكتّاب، وما يحبون وما يكرهون، لا يجب أن تتركَ الدولة كلَّ شىء للعَرض والطلب ولقوَّة الشراء والبيع، الدولة يجب أن تتدخلَ فى الوقت المناسِب لتحفظ حقوق غير القادرين.
الحقُّ فى البحر لا يعنى ذلك التفسيرَ الساذج بأننا نريد للناس حصةً فى أن «يستحموا» فى بحر الإسكندرية صيفًا. البحر جزءٌ أساسى فى تكوين الوعى والخيال والعلاج النفسى والانتماء للمكان. غيابُ «الحق فى المكان» يشمل كثيرًا من سَواحل بلادنا، ليس على المتوسط فقط؛ بل وعلى البحر الأحمر أيضًا.
حاولْ أن تصلَ إلى السويس أو العين السخنة وابدأ رحلتَك إلى البحر الأحمر وصولًا إلى الغردقة أو القصير أو سفاجا، أو غامرْ وجرِّب أن تذهبَ إلى مَرسى علم أو رأس بناس. البحر كله مُحاط بسورٍ مانع، إما ممنوع الاقتراب والتصوير أو قرى حَصرية على الأثرياء لا يمسُّها الفقراء، أو تُحيطها أبوابٌ حديدية لشركات البترول، بل إنَّك مؤخرًا لا تستطيع أن تنزلَ لتَتَنفس الهواء النقى بعد أن تمَّ تخصيصُ الساحل كله لمزارع توليد الطاقة بالرياح، وأصبحت أيضًا مناطقَ خطرةً وحَصرية وغير قابلة للاقتراب.
نحن دولة غنيةٌ جدًّا فى البحر، لدينا أكثرُ من 2000 كم من خطوط السواحل على البحريْن الأحمر والمتوسط، ومئات كيلومترات إضافية على البحيرات الطبيعية والصناعية وقناة السويس، وهذا يجعل بلادَنا ــ نظريًّا ــ فى طَليعة دول العالم من حيث نَصيب الفرد من البحر. أما فى الواقع العملى فنحن مِن أفقَر شعوب العالم فى حصةِ الواحد منّا فى البحر، والسبب فى ذلك هو «عدم المساواة» و«عدم الإنصاف» الجغرافى. لهذا السبب تَنشأ مبرراتُ جغرافية العَدالة الاجتماعية. وحين تكشفُ الجغرافيا عن مَواطن الخلل وظلم التوزيع فإنها تفعلُ ذلك ــ أيضًا ــ لصالح الأثرياء وسلامَة مجتمعاتهم!
والحق فى النهر !
لقد نَسينا أنَّ نهرَ النيل فى القاهرة الكبرى لم يعد متاحًا أيضًا؛ فهو مُغلق على فئاتٍ حصرية ونقاباتٍ وقطاعٍ خاص، وليس من حقِّك أن ترى النهر أو تجلس أمامَه. يعتقد البعض أنَّ إنشاء مجموعةِ كافيهات ومطاعم وقرى مُغلقة على النهر والبحر يَفتح فرصًا للعمل لأبناء الفقراء، هذا صحيحٌ بنسبة ضئيلةٍ جدًّا، ومعظم ما فى العبارة من خطأ مردُّه أنَّ الفقراء يحتاجون البحرَ حاجة ماسَّة لازمة لازبَة!
علاقةُ الإنسان بالبيئة (نهرًا وبحرًا وبرًّا) ليست علاقةَ تَرفيه واستجمام؛ بل هى الباعثُ الأول على كلِّ أخلاق وصفاتِ الإنسان المنتج المثمِر فى بلاده. من دون بحر، كيف سيَظهر عندنا مستكشفون يتحلّون بالجرأة والشَّجاعة والمقاومَة والبطولة؟ كيف سنَكتشف ثرواتِ البحر والبرِّ والنهر؟ كيف ستولَد الأفكار العبقريةُ عند العلماء كما سقطتِ التفاحة على رأس نيوتن؟ كيف ستولَد الأحلام بأن يكون مِن بين أبنائنا بحّارة وغوّاصون وملّاحون ومستكشفون للأفق البعيد؟ وفى الأخير كيف سيكون لدَينا أدباءُ ومبدعون ومُفكرون يَستلهمون من البحر ما فاضَ به على السابِقين من أمثالِ كبارِ الأدباء، فأنتجت قريحتُهم ما زَخرت به مكتبة الإبداع بصنوف وألوان فنية راقية؛ بل وينسحب الأمر ــ كذلك ــ على النهر بما يبثُّه من معانٍ خلّابة فى نفوس المبدعين؛ وما رائعةُ موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب «النهر الخالد» منّا ببعيد!
إنَّ إغلاقَ النهر والبحر بأسوارٍ يعيش فيها الأثرياء دونَ الفقراء لا يتسبَّب فى مشكلة اقتصاديةٍ واجتماعية قصيرةِ الأمد فحسب؛ بل يقتل فكرةً مهمَّة جدًّا نَجهلها؛ وهى فكرة «اللانهاية».
انظرْ حولك، كلُّ شىء يقول لك إن لكلِّ شىء «نهاية» وإنه لا يوجد أفُق، وإنك لا تَعرف ماذا يجرى «وراء الأسوار»، ولا يحقُّ لك أن تعرف، ولا يجب أن تُفكر فى أن تعرف. هل هذه الأسوار رسالة مبطَّنة بأنك تعيش داخلَ سجنٍ، أو أنك قريبٌ من السجن جدًّا؟!
البحرُ المفتوح والنهرُ المفتوح والبرُّ المفتوح ليس بهدف التَّسكع والاستحمام، بل هو مكوِّن أساسى فى حقيقة وطبيعةِ الإنسان على هذه الأرض، ليس فقط هذا الإنسان الذى يَعرفه الجيل الحالى؛ بل الإنسان الذى لم يولَد بَعد فى هذه الأرض، وله حقٌّ فى المكان.