معرض أم كلثوم ينبغي أن يطوف العالم

سيد محمود
سيد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 19 أغسطس 2025 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

بسبب حبى الجارف لصوت السيدة أم كلثوم، أتمنى أن يتمكّن كل مصرى من مشاهدة معرض (أم كلثوم: صوت مصر، صوت ألهم الصورة) الذى انطلق أول أمس بقصر عائشة فهمى بالزمالك.

المعرض، الذى ينظمه قطاع الفنون التشكيلية بوزارة الثقافة برئاسة الدكتور وليد قانوش، يستمر حتى منتصف نوفمبر القادم، ويمثل محطة مهمة فى إعادة اكتشاف (ثومة).

يستهدف المعرض إثارة فضول الأجيال الجديدة بالتركيز على الجانب الملهم فى شخصيتها، الذى دفع رموز الفن التشكيلى الكبار لاستلهام صورتها فى أعمال فنية تحولت عبر سنوات إلى ظاهرة فريدة فى أسواق الفن.

ويرصد المهتمون بحركة الفن الطلب الواسع على اقتناء لوحات تستلهم أم كلثوم، لتؤكد طابعها الأيقونى من جهة، ومن جهة أخرى تحولها إلى (بوب آرت) يقوم على تسليعها، بما يؤكد فاعليتها كعلامة ثقافية منتِجة لدلالات لا يمكن تفاديها فى النظر إليها كأداة من أدوات الثقافة الجماهيرية ذات التأثير الواسع.

أميل دائمًا إلى التعامل مع (الست) كمغنية شعبية أو فنانة كلاسيكية، والشعبى هنا أو الكلاسيكى يُقصد به الكيفية التى يتحول من خلالها الإنتاج الفنى إلى معيار أو مرجعية فنية مقبولة بين جميع الطبقات والشرائح، وبالتالى يسهل تمريره بين فئات وشرائح عمرية تنتمى إلى بيئات مختلفة. وبهذا المعنى فإن نجيب محفوظ هو الآخر كاتب شعبى لو تأملنا حضوره أو اتساع تأثيره، ومثله أيضًا أسامة أنور عكاشة ووحيد حامد.

الميزة الرئيسية التى يحققها المعرض كونه يُظهر تأثير كوكب الشرق فى مجالها العام، ويبرزها كنسق ثقافى فنى هو محصلة تفاعلات مجتمعية بالأساس، وهو أمر ينبغى أن نلتفت إليه قبل البحث عن (أم كلثوم) جديدة.

لا تأتى معجزة (الست) من الصوت وحده، وإنما من السياق الذى عبّر عن لحظة نهضة شاملة أو وثبة صعود لهوية وطنية جديدة جاءت بفضل ثورة 1919. وقد اتسعت هذه اللحظة لتشمل قامات أخرى عاصرتها من أمثال: طه حسين، وتوفيق الحكيم، وحسين فوزى، ومحمد عبد الوهاب، ومحمود مختار، ومحمود سعيد، وآخرين.

ألحَّ هؤلاء، من مواقع مختلفة، على معانٍ ارتبطت بالاستقلال والتحديث والعدالة الاجتماعية، وكانت همومهم أو مساعيهم هى التى تشكل المتخيل الوطنى الذى قصده بندكت أندرسون فى كتابه المهم (الجماعات المتخيلة)، والمعنى المقصود لدينا يرتبط بأدوارهم فى تشكيل الوجدان العام.

عبر نجاح هؤلاء عن صعود قوى اجتماعية كانت تمثلها الطبقة الوسطى، التى استفادت بوضوح من ظهور المؤسسات فى عصر الملك فؤاد، ومن الوسائط الجديدة التى جلبتها التكنولوجيا كالأسطوانة وموجات البث فى الإذاعات الأهلية والرسمية بعد ذلك.

بفضل تلك الوسائط اكتسبت أم كلثوم نفوذها، وسمح عصرها بتقدمها دون حاجة إلى وساطة سوى موهبتها التى استطاعت تجديدها والحفاظ عليها بفضل عبقريتها وذكائها، وهى حقيقة يثبتها المعرض.

وقد أحسن وزير الثقافة الدكتور أحمد فؤاد هنو تقديمه خلال كلمته الافتتاحية، معتبرًا أن المعرض يجسد كوكب الشرق رمزًا استثنائيًا للهوية المصرية، ويمثل مساحة ملهمة تتلاقى فيها الفنون التشكيلية مع الذاكرة الغنائية والمقتنيات النادرة والأرشيفات الصحفية التى قدمت صورة متكاملة عن أم كلثوم وعصرها، وأظهرتها كقيمة خالدة فى الضميرين الوطنى والعربى، فهى «صوت أمة كاملة».

بخلاف الأعمال الفنية والأرشيفات النادرة، يكتشف المعرض كنوزًا لقامات راسخة مثل جمال السجينى، وسيف وانلى، وحسين بيكار، وصلاح طاهر، وجورج البهجورى، كما يعرض أعمالًا لـ 29 فنانًا تشكيليًا من أجيال مختلفة.

تتنوع الأعمال المعروضة بين التصوير والنحت، بما يعكس حجم الإلهام الذى مثّلته أم كلثوم على مدار العقود. كما يقدم رصدًا توثيقيًا خاصًا لمسيرة كوكب الشرق من خلال الصحافة المصرية على مدى قرن كامل، عبر نسخ أصلية من الجرائد والمجلات التى أرخت لمسيرتها الفنية. ولعلها مناسبة لتأكيد الدور الريادى للصحافة، إذ ساند أم كلثوم قامات صحفية مثل مصطفى وعلى أمين، ومحمد التابعى، وكامل الشناوى، وإحسان عبد القدوس، ومحمد حسنين هيكل، وقبل هؤلاء الشيخ مصطفى عبد الرازق، وبعدهم أحمد بهاء الدين، وفتحى غانم، وأنيس منصور، وكامل زهيرى، ومحمود عوض، ورجاء النقاش.

يُظهر المعرض كذلك أعمال أسماء معاصرة قدمت إضافة جمالية لافتة، ومنها: أحمد رجب صقر، وخالد سرور، وعبد الوهاب عبد المحسن، وخالد حافظ، ومحمود حمدى، وسامح الطويل، وعلى سعيد الذى بذل جهدًا فائقًا فى الإعداد والتجهيز كقوميسير للمعرض، ومعه الجنود المجهولون الدكتور إسلام عاصم الذى أعد كتابًا متميزًا للمعرض، والدكتورة سندس سعيد مديرة قصر عائشة فهمى.

شخصيًا كنتُ أتمنى أن أرى أعمالًا لفنانين آخرين رسموا السيدة أم كلثوم فى تجارب متنوعة مثل شانت أفيديسيان، وعادل السيوى، وعصام معروف، وإبراهيم الدسوقى فهمى، ووجيه يس. وقد علمت أن بعضهم تلقى دعوات للمشاركة لكنهم غابوا. كذلك كنتُ أتمنى إفساح المجال لبعض الأعمال التى تنتمى إلى الفن المعاصر، لأن ذلك يمثل تحديًا كبيرًا ومغامرة جمالية من نوع آخر.

أطالب وزير الثقافة أن يبذل أقصى ما يستطيع من جهد لتنظيم جولات داخلية وخارجية للمعرض ليحقق رسالته، فمن المؤكد أن الدول التى استقبلت حفلات المجهود الحربى لديها الكثير من أسباب الشغف لإعادة استقبال أم كلثوم فى حضورها المتجدد.

كما أتمنى أن يمثل المعرض مناسبة للنظر بجدية فى ملف تطوير متحف أم كلثوم الكائن فى قصر المانسترلى، فالمتحف، رغم جمال موقعه، عاجز عن أداء وظيفته، وهو غير جاذب للفئات الشابة نظرًا لأن تجهيزه تم قبل أكثر من ربع قرن، وفى ظروف اختلفت تمامًا عن أساليب العروض الرقمية القائمة فى أغلب متاحف العالم الآن.

أعرف أن ذلك يحتاج إلى ميزانيات كبيرة، لكنه سيؤدى بلا شك إلى تحقيق قفزة نوعية ترتقى بسيناريو العرض المتحفى وتعيد الاعتبار إلى ذكرى أم كلثوم التى يجددها المعرض.

كما أتمنى من صديقى أحمد المسلمانى أن يفكر فى إطلاق إذاعة تُخصص بكاملها لبث أغنيات أم كلثوم ولقاءاتها الإذاعية والبرامج التى أُعدت حول مسيرتها طوال قرن كامل، والأمر المؤكد أن ما لدينا من أرشيفات كفيل بإنجاز المهمة فى أسرع وقت، ومن المؤكد أنها ستحقق للإذاعة أرباحًا هائلة من الإعلانات.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved