إدارة الخلافات العربية.. نحو استراتيجية عقلانية لبناء التوافق
سماء سليمان
آخر تحديث:
الثلاثاء 19 أغسطس 2025 - 7:55 م
بتوقيت القاهرة
بداية، أود أن أناقش إشكالية أساسية فى العلاقات العربية ــ العربية، وهى كيفية إدارة الخلافات العربية، ولذا لابد من الإقرار بوجود هذه الخلافات وعدم إنكارها حتى يسهل علينا إدارتها. وبالفعل، هناك خلافات بين الدول العربية، سواء كانت خلافات سياسية أو اقتصادية أو حتى ثقافية، إلا أن التاريخ والجغرافيا والمصير المشترك والرغبة فى مستقبل أفضل تفرض علينا، نحن العرب، ضرورة تبنى نهج ذكى وعملى يقوم على التوافق فى إدارة هذه الخلافات؛ فالفشل فى التعامل معها بطريقة رشيدة لا يؤدى فقط إلى مزيد من الانقسام، بل يهدد استقرار المنطقة بأسرها.
ولذا، علينا كخطوة أولى لإدارة الخلاف أن نعترف بوجوده كواقع وليس كأزمة، ومن ثم فإن وجود الخلافات أمر طبيعى فى أى منظومة إقليمية. وبالتالى من غير الواقعى توقع اتفاق دائم بين اثنتين وعشرين دولة عربية، لكل منها سيادتها ومصالحها وظروفها وموقعها. لذلك، من المهم عدم التعامل مع الخلاف على أنه عيب سياسى، بل باعتباره مساحة للحوار وفرصة لفهم أعمق لتباينات المواقف.
وهنا تأتى الخطوة الثانية من وجهة نظرى، وهى القدرة على «عزل الملفات»، أى الفصل بين الخلافات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. فمثلاً، فى ظل وجود خلافات سياسية، يجب ألا يتوقف التعاون الاقتصادى والتنموى. وهنا تأتى تجربة الاتحاد الأوروبى مثالًا بارزًا؛ حيث أثبت أن التعاون فى مجالات المصالح المشتركة يمكن أن يبنى الثقة ويخفف من حدة الخلافات السياسية.
ونظرًا لتميز العلاقات العربية ــ العربية، يمكن تعزيز الدبلوماسية الهادئة والقنوات غير الرسمية فى حل النزاعات، مثل الوساطة الشخصية والعلاقات غير الرسمية بين قادة الدول أو رموز الفكر والسياسة، لفتح قنوات تواصل غير مباشرة تُهيئ الأجواء للحوار الرسمى. ولذا أرى أن الدبلوماسية «الصامتة» أكثر قدرة على إحداث التوافق، وأكثر فاعلية فى كثير من الأحيان من التراشق الإعلامى الذى يعمّق الانقسام.
ومن الملاحظ استخدام بعض الدول العربية الإعلام فى خلافاتها، الأمر الذى يتطلب التوقف عن تسييس الإعلام وتأجيج الرأى العام، بل يُفضل أن يلعب الإعلام العربى دورًا حاسمًا فى تهدئة الخلافات لا فى تأزيمها، لأن الاستخدام غير المسئول للمنصات الإعلامية، وتوظيفها لتصفية الحسابات أو شيطنة الطرف الآخر، لا يخدم سوى أعداء المنطقة.
كما حان الوقت ليعمل العرب جميعًا على تفعيل مؤسساتهم والاستفادة من الأطر الإقليمية القائمة بإرادة عربية قوية، وخاصة جامعة الدول العربية، بما يتماشى مع التحديات الحالية إذا كنا، كعرب، نريد نهجًا ذكيًا لإدارة الخلافات.
وأستطيع أن أضيف إلى كل ما سبق ضرورة تقديم المصالح العليا للأمة العربية على المكاسب الظرفية، فالنهج الذكى فى العلاقات لا ينفصل عن الأخلاق السياسية والمسئولية التاريخية. ففى كثير من الحالات، يثبت أن التمسك بالمواقف المتشددة يحقق مكاسب لحظية، لكنه يخسر على المدى البعيد، بينما التوافق والمرونة الاستراتيجية، والقدرة على التنازل المحسوب، تسهم فى تعزيز الأمن القومى العربى الشامل.
وبالطبع، فإن إدارة الخلافات العربية بذكاء ليست رفاهية سياسية، بل ضرورة وجودية. ونحن، كعرب، فى مرحلة تستدعى الانتقال من «الانفعال إلى الفعل»، أى من ردود الفعل العاطفية إلى بناء استراتيجيات عقلانية تقوم على التوافق، وتستند إلى الواقعية السياسية، وتحترم خصوصيات كل دولة، دون الإخلال بروح التضامن العربى. فالذكاء السياسى المرتكز على الحوار والتفاهم، هو ما يمكن أن يفتح الأبواب أمام مستقبل عربى أكثر استقرارًا وازدهارًا.