عند مفترق طرق.. أو قبل منتصف الليل بدقائق
معتمر أمين
آخر تحديث:
الجمعة 19 سبتمبر 2025 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
آخر ما يتوقعه أى محلل سياسى هو انهيار السلام بين مصر وإسرائيل وعودة حالة الحرب لما قبل اتفاقية كامب ديفيد. وذلك لأن أى عاقل لا يرى مصلحة فى الدمار والخراب. ولكن كلما تصورنا أن أمرا ما مستبعد منذ اندلاع حرب غزة 2023، أو بالأحرى منذ شكلت الأحزاب اليمينية الإسرائيلية الحكومة الحالية فى ديسمبر 2022، كلما فاجأتنا باعتداءات لا تصدر إلا عن عقلية منفلتة تعميها غطرسة القوة الآخذة فى التضخم. كان آخر تلك الأفعال المنفلتة استهداف دولة قطر، مع التهديد بتكرار نفس الفعلة على مرأى ومسمع من العالم بأسره.
لن تتوقف هذه الغطرسة إلا بسقوط هذه الحكومة، أو باصطدامها مع قوة مضادة تجبرها على التوقف. وكان المتوقع أن تخرج قمة الدوحة العريية الإسلامية بقرارات تظهر الصمود أو حتى التماسك، ولكن جاء البيان الختامى خاليًا من أى إجراء يحول دون التمادى الإسرائيلى. وعلى التوازى، كان رئيس الحكومة الإسرائيلية يستقبل وزير الخارجية الأمريكى، وكرر خلال المؤتمر الصحفى الذى جمعهما نفس التهديدات لقطر أو أى دولة تستضيف قيادات المقاومة الفلسطينية. وما إن انتهى المؤتمر حتى بدأ الاجتياح البرى لمدينة غزة المحاصرة، والذى يهدف لطرد سكانها إلى جنوب القطاع، تمهيدا للاستيلاء عليها عنوة.
ولا أظن أن إسرائيل ستنجح فى إخلاء مدينة غزة من سكانها بقوة السلاح، وإنما أغلب الظن أنها ستفشل فى ذلك، بالرغم من خروج نحو ثلاثمائة من أصل مليون فلسطينى تحت الحصار بالمدينة، وتوجههم جنوبا. ولكن إذا وقع المحظور، وزادت وتيرة التوجه إلى الجنوب، فأغلب الظن أننا أقرب لتجدد الصراع عن أى وقت مضى. ولكن شيئا ما غير منطقى فى هذه التطورات، لماذا تشاهد الولايات المتحدة هذه التداعيات التى تنذر بتفاقم الأوضاع واقتراب المواجهة بدون أن تحرك ساكنا؟. بل تزيد فى موقفها العدائى خلال زيارة وزير خارجيتها للدوحة، بعد يوم من القمة العربية الإسلامية، وتعلن على لسانه، إن قطر هى الدولة «الوحيدة» القادرة على الوساطة. فهل إخراج مصر من معادلة الوساطة إعلان بأن الولايات المتحدة تنظر إليها باعتبارها مع الطرف الآخر؟ أم أن هذا مجرد أسلوب دبلوماسى للضغط؟
• • •
المشكلة أن حكومة نتنياهو المنفلتة تتمسك برؤية ترامب حول تهجير سكان غزة وتوسيع رقعة إسرائيل. وهذا الطرح يضاهى رؤية إسرائيل لنفسها على أنها الوريث الشرعى لأراضى الغير بوعد من الرب، وليست كما يتهمها البعض بأنها مشروع استيطانى استعمارى توسعى. مجددا تصطدم هذه الرؤية بكل القوانين والأعراف الدولية، وتؤكد لمصر بأن التصعيد هو سيد الموقف. ولذلك توقفت الصحف الإسرائيلية أمام إطلاق كلمة «عدو» على إسرائيل بالقمة العربية - الإسلامية، كما توقفت أمام تكرار الدعوة لإنشاء قوة مشتركة. وانتقدت الصحف الإسرائيلية هذه الكلمات واعتبرتها تصعيدا خطيرا ضد دولتهم! كما أشارت بعض التحليلات الإسرائيلية إلى تماهى مفردات الخطاب الإيرانى - المصرى بالقمة العربية الإسلامية، وأبدت تخوفها من التقارب المصرى التركى لاسيما فى مجال التصنيع العسكرى. ودفعت هذه التطورات بعض قادة المعارضة الإسرائيلية لاتهام حكومتهم بأنها تتسبب فى بناء تحالفات عسكرية مناوئة لدولتهم، وتمثل خطرا على أمنها واستقرارها.
• • •
لكن نتنياهو مثله مثل كل الطغاة الذين سبقوه، يضرب عرض الحائط بكل التخوفات التى تُثار من داخل دولته ويستخف بها، ويزيد من غطرسته فى تعامله مع الدول العربية. وكيف لا وهو ذاهب إلى الأمم المتحدة فى غضون أيام ليعتلى منبرها ويلقى كلمته، بالرغم من كونه مطلوبا للعدالة، بأمر من المحكمة الجنائية الدولية. هذا والأمم المتحدة أصدرت عشرات التقارير التى تتهم نتنياهو شخصيا، وحكومته بالتبعية، بارتكاب جرائم حرب، وإبادة، والتسبب فى مجاعة فى غزة. فكيف تسمح بدخول مجرم حرب مطلوب للعدالة ليلقى كلمة أمام وفود الدول. وأغلب الظن سيكون رد الفعل التلقائى من غالبية الوفود هو الانسحاب من الجلسة، احتراما لأنفسهم، واشمئزازا من التواجد مع مجرم حرب تحت سقف واحد. ولكن يجب الانتباه إلى أن نتنياهو سيستغل وجوده داخل الأمم المتحدة ليرتكب جريمة أخرى، على غرار ما فعله العام الماضى. فآخر مرة اعتلى فيها المنبر كانت قواته تستهدف قيادة حزب الله فى لبنان. فمن عساه يكون الهدف هذه المرة؟ هل يفاجئنا بمقابلة أحمد الشرع فى أروقة الأمم المتحدة، أم باغتيال جديد فى اليمن؟
وبعد الأمم المتحدة سيتوجه نتنياهو إلى البيت الأبيض لمقابلة الرئيس ترامب، والأخير هو صاحب فكرة تهجير أهل غزة وبناء ريفيرا ترامبية محلها. وهو يمنح نتنياهو الحصانة «بالقوة» أمام قرارات الجنائية الدولية. ويعطيه الضوء الأخضر لاستمرار عملياته العسكرية، مهما كان عدد الضحايا، ومهما بلغت خطورة الضربات، ومهما وصلت لأماكن قد تفجر صراعا أوسع بالمنطقة العربية. ولن يتحول ترامب عن هذه السياسات إلا إذا تيقن بأن نقطة الصدام تقترب، مما يهدد أمن إسرائيل؛ وإلى أن يحدث ذلك، فإنه لن يلتفت، لا للشرق الأوسط، ولا لنداء قادته، ولا لمعاناة شعوبه. علما بأن الدول العربية، لاسيما الخليجية، لديها الكثير من أوراق الضغط التى تستطيع استعمالها للضغط على الولايات المتحدة. ولكن لسبب ما لا أحد يستعمل تلك الأوراق، ولا نرى تهديدًا بسحب الاستثمارات، ولا تلميحًا بتقليص القواعد العسكرية الأمريكية بأى دولة بالمنطقة. فلماذا يكترث ترامب؟ هو فقط قد يلاحظ توقيع السعودية وباكستان اتفاقية دفاع استراتيجى مشترك!
• • •
لذلك نحن على مفترق طرق، فالسكوت هو ببساطة خضوع للمشروع الإسرائيلى، وحال اختارت أى دولة الصمود أو المواجهة، فإنها تغامر بالوقوف منفردة، بلا أى عون عربى أو إسلامى إلا بعض كلمات الإدانة هنا أو التشجيع هناك. ولنا فى إيران العبرة. البعض يظن أن هذه مبالغة وأن الأمور ستسير نحو التهدئة، تماما مثلما ينكر كثير من المحللين السياسيين احتمال انزلاق المنطقة إلى حرب شاملة أو مفتوحة! ولهؤلاء نقول، هل توقعتم استهداف قطر؟ وهل توقعتم استهداف إيران؟ وهل توقعتهم اغتيال قادة حزب الله؟ وهل توقعتم اغتيال مجلس وزراء الحوثيين؟ وهل توقعتم الانقضاض على نظام بشار؟ وهل توقعتم اعتلاء جبهة النصرة الحكم فى سوريا؟ وهل توقعتم أن يشاهد العالم حرب إبادة وجرائم ضد الإنسانية أمام شاشات التلفزيون جهارا نهارا لشهور طويلة بدون أن يحرك أحد ساكنا؟
لا أدرى، متى ترتكب إسرائيل الحماقة التالية التى قد تتسبب فى انهيار السلام بالمنطقة، ولكننا قريبون جدا، ويفصلنا عن منتصف الليل بضع دقائق. ولذلك بدأنا نسمع مفردات من نوعية، عدوان، واحتلال، وإبادة، وعدو، وتهديد، وتقويض، وعدم استقرار، وعودة التوتر، وتجدد الصراع.. إلخ من قائمة طويلة تتواتر على ألسنة المسئولين. وهى حرب بالكلام، تواكب التصعيد الدبلوماسى، على التوازى مع بناء القدرات العسكرية «الدفاعية» لعلها تمنع أو تردع المعتدى، الذى لا يفهم إلا لغة القوة.