‎المَقلَب

بسمة عبد العزيز
بسمة عبد العزيز

آخر تحديث: الجمعة 19 سبتمبر 2025 - 9:05 م بتوقيت القاهرة

‎‎رفض بائع الروبابيكيا أن يأخذَ الغطاءَ القديم ولو دون مُقابل. فاوضَته المرأةُ من شُرفتِها؛ لكنه سألها عن مُكيِّف أو شاشة أو حتى كُتب. اغتاظت وزَعقت: يعنى أعمل إيه؟ فرد مُشيحًا بذراعه: ارمه فى المَقلَب القَّريب.

•• •

‎المَقلبُ اسمُ مكان من الفعل قَلَبَ، وهو مَحلٌّ يتغيَّر فيه وضع الأشياء فتُلقى رأسًا على عَقب. يقال قلب الواحد صفحةَ الكتاب وقَلبَ الموضوعَ وقَلبَ المَوقِف. إذا انقلبت الحال فقد تغيرت إلى النقيض، وإذا انقلبت العربة فحادث مُفجِع. الفاعلُ قالبٌ والمفعول به مَقلوب والمصدر هو القَّلب بتسكين حرف اللام، والمُنقلَب مُفردة تشير إلى المَصير أي؛ المأل الذى يمضى الواحد إليه بما صنع، أما المَقلوبة فأكلة شامية ذات أصل فلسطينى.

• • •

‎مَقلَب القمامة هو مَوقِع تجمُّعها؛ ربما كان مساحة أرض فى الخلاء، وربما ركنٌ فى الشارع أو على الناصية، اتفق الناس عليه وقصدوه للتخلص من مُخلفاتهم دون أن يكونَ مخصَّصًا لها. حَوْل كلّ صندوق رمادى كبير تتناثر الأكياسُ السَّوداء والبقايا المُتنوعَة، تتولد الرائحةُ حادةً مُميّزة وتتكاثر الهوام وتتوافد شتّى الكائناتُ الحيَّة الباحثة عن قوتها. إبعاد الأثاثِ المُتهالك يجد طريقه أيضًا لمقالب القمامة؛ مَقعدٌ قديمٌ مَكسور، منضدةٌ مُعوَّجة مختَزَلة القوائم، مصباح تهشم زجاجُه؛ كلُّ ما لا يتسع له البيتُ ينضَمُّ إلى المَقلب ويجد فيه مُتسعًا.

• • •

‎ثمَّة استخدامٌ دارج لمُفرَدة المَقلب، لا يتعلق بالمكان تحديدًا؛ فإذا قيلَ أخذَ فلانٌ مَقلَبًا؛ فالمعنى أنه توقع أمرًا ما ثم اصطدم بغيره؛ وخابَ بالتالى ما رتَّب له؛ ذهَب إلى السينما مثلًا فوجد أن موعدَ العرضِ قد تبدَّل دون سابق إخطار، قصَد مصلحةً حكومية فوجد أنه فى حاجة لمُستندات أخرى غير التى حمَلها معه، وَصَل بيته جائعًا متأكدًا أن بثلاجته طعامًا، فلم يجد سوى المياه الباردة. مَقلبٌ هنا وآخر هناك؛ لا تمضى الحياةُ دون ما يجعل لها طعمًا ويعطيها شيئًا من الإثارة.

• • •

‎تروِّج وسائل الإعلام لبعض المُنتجات بقوة وغزارة؛ يتلهف الناسُ على اقتنائها ثم يفاجئون بأنها «مقلب» كبير، فيكفون عن شرائها ويذيعون النبأ. تعتمد كثير القنوات على إعلانات لسِلع هى أشبه بالخدعة، منها ما يدَّعى النجاحَ فى إزالة أى بقعة، وما يتعلَّق بالتداوى من عِلَّة، وما يؤكد قدرته على التَّعجيل بالإنجاب. أغلبها وهمٌ، والرقابةُ فى المُجمَل غائبة؛ اللهم إلا عن التفتيش وراء التفاهات بدعوى الحفاظ على الفضيلة والأخلاق.

• • •

‎إذا أقرَّ الزبائنُ بأن الصنايعى الذى استنجدوا به؛ مَقلبٌ، فالقَّصد أنه خذل ظنَّهم فيه. تصَوَّروا أنه ماهرٌ؛ فتجسَّدت على أرضِ الواقع خيبتُه، أو ظنُّوا أنه ذكى عارف؛ فتمخَّض فِعله عن العكس بالتمام. المَقلَب فى الأحوال معظمها مُزعج مُستفِزّ؛ لا يمنعه احتراس أو حذر.

* • •

‎بعضُ الأحيان يتعرض الواحد لمقلبٍ شديد، ويتحاكى الناسُ عنه قائلين: أخذ مقلبًا طَلعَ من عينه، والمَجاز هنا دلالةٌ على مبلغ تأثره بما وقع. أخذ بعض حكامُ العَرب مقلبًا تلو الآخر من الإدارة الأمريكية خلال ولايتى الرئيس دونالد ترامب، المَقلبُ درسٌ، والتعلُّم منه واجبٌ على كلِّ مَن يرى ويعقِل.

• • •

‎تحوَّلت السياسة إلى مَجال خصب للمقالِب فى الآونة الأخيرة. الكلماتُ التى يتلفظها كثيرُ القادة والمسئولين تتبدَّل بين عَشيةٍ وضحاها، والوعود التى تُقطَع تتغيَّر ما مرَّ عليها الوقت، أما الالتزاماتُ فتتحوَّل إلى تملُّص وتجاهُل.

• • •

‎القالبُ هو الإطار الجامد الذى يحوى شيئًا ما، وليس بالضرورة أن يكونَ ماديًا ملموسًا. تُوحى المُفردةُ بالجُّمود، لذا يُوصَف بها صاحبُ التوجُّه الثابت؛ الذى لا يُجرّب شططًا ولا يُغادر الحدودَ المُقرَّرة. القوالبُ الفكريَّةُ الجامدة مأساةٌ كبرى؛ فالمرء ما حَبَس عقلَه فى إطار غير مَرِن؛ تحوَّل إلى آلة، ولسعى إلى تكييف معرفته داخل الإطار الذى اختاره حتَّى ولو شوَّهها، وجادلَ دون أن تكون لديه الحُجَّة المُقنِعة، وارتكب من موقعه المُتصَلِّب أخطاءً جمَّة؛ لا يريد أن يراها أو يعترف بها، فإن فعل فبعد فوات الأوان.

• • •

‎قوالبُ الكيك هى مجموعة خاصة من الأوانى، تحتفظ للعجين بأشكال هندسية طريفة حتى ينضج، أما قالبُ الجُّبن فمكعبٌ ثابت يُوزَن قبل تقدير ثمنه، ومثله قالبُ الحلاوة الطحينية وقالب الزبد الذى يتطلب شرائه ثروة. هناك أيضًا قالبُ الجِّبس أو الطين الذى يَصنعه النحَّات ليصبَّ تمثاله من مواد أصلَب وأطول عمرًا.

• • •

‎ربما ينال الإرهاقُ من المَرء بعد يوم شاق، فيلقى بجسَدِه على أقرب مقعد أو أريكة ويَغيب عمَّا حوله. يَنقلب من التَّعب ويَسقط فى نوم عميق دون مُقدِّمات. المَجهود الضَّخم لا يترك فُرصة لأى عمل آخر، والشُّعور بالرضاء عن النفس أقوى مهدئ للبال.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved