صعود الرأسمالية غير المادية
العالم يفكر
آخر تحديث:
الجمعة 19 نوفمبر 2021 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
نشر موقع بروجيكيت سينديكيت مقالا للكتاب إريك هازان، وجوناثان هاسكل، وستيان ويستليك، يقولون فيه أن هناك نوعا جديدا من الرأسمالية بدأ يتصاعد وهو اقتصاد الاستثمار فى الأصول غير المادية، مؤكدين أن هذا الاقتصاد يتطلب رفع المهارات والقدرات وأن الشركات التى لن تستثمر فيه ستتخلف عن الركب.. نعرض منه ما يلى:
فى كتاب صدر عام 2014، يزعم الاقتصادى الحائز على جائزة نوبل جوزيف ستيجليتز وبروس جرينوالد أن النعمة المجتمعية الأعظم أهمية على الإطلاق هى القدرة على التعلم. اليوم، بات من الواضح على نحو متزايد أن «مجتمع التعلم» لم يُـخـلَـق فحسب، بل بدأ يدفع اقتصاداتنا إلى الأمام.
منذ القرن التاسع عشر وحتى ما يقرب من خمسة وعشرين عاما مضت، استثمرت الشركات بشكل كبير فى البنية الأساسية المادية والآلات، من السكك الحديدية إلى المركبات. لكن على مدار ربع القرن الأخير، ارتفع الاستثمار فى ما يسمى الأصول غير المادية ــ مثل الملكية الفكرية، والبحوث، والبرمجيات، والمهارات الإدارية والتنظيمية ــ إلى عنان السماء. وجد بحث حديث أجراه معهد ماكينزى العالمى أن الأصول غير المادية كانت بحلول عام 2019 تمثل 40% من كل الاستثمار فى الولايات المتحدة وعشرة اقتصادات أوروبية، بزيادة قدرها 29% مقارنة بعام 1995. ويبدو أن الاستثمار فى الأصول غير المادية ارتفع مرة أخرى فى عام 2020 مع تسارع التحول الرقمى فى الاستجابة لجائحة مرض فيروس كورونا 2019 (كوفيد ــ 19).
ونحن نعتقد أن هذا الاتجاه يُـلـمِـح بقوة إلى نشوء نموذج جديد للرأسمالية، حيث يُـقـاس نجاح الشركات من خلال مهارات موظفيها وقدراتهم أكثر من آلاتهم أو منتجاتهم أو الخدمات التى يقدمونها. نعتقد علاوة على ذلك أن التراجع عن هذا الاتجاه أمر غير وارد. الواقع أن شركات مثل أمازون، وأبل، وفيسبوك، وميكروسوفت تزداد توسعا بشكل كبير وتحقق نموا مفرطا.
•••
لعل الأصول غير المادية هى التى تدفع هذه الظاهرة. فمن المؤكد أن هناك علاقة ارتباط بين الاستثمار فى الأصول غير المادية وزيادة الإنتاجية والنمو. وجد بحث معهد ماكينزى العالمى أن ما تستثمره الشركات فى الربع الأعلى للنمو فى الأصول غير المادية يعادل 2.6 ضعف ما تستثمره أدنى 50% من الشركات. على نحو مماثل، سجلت القطاعات الاقتصادية التى استثمرت أكثر من 12% من إجمالى قيمتها المضافة فى الأصول غير المادية نموا أسرع بنحو 28% مقارنة بالقطاعات الأخرى.
كما أن الاقتصادات حيث يتزايد الاستثمار فى الأصول غير المادية تسجل نموا فى إنتاجية عوامل الإنتاج الكلية. والجدير بالذكر أن الشركات الوحيدة التى تمكنت من الحفاظ على معدلات النمو لعام 2019 بعد اندلاع الجائحة فى أوائل عام 2020 كانت تلك التى استثمرت بشكل كبير فى النطاق الكامل من الأصول غير المادية: الإبداع، والبيانات والتحليلات، ورأس المال البشرى والعلامة التجارية.
فى عالم غير مادى، ومتحول رقميا، وتدفعه المعرفة، سوف يزداد ارتباط عائدات الشركات وإنتاجيتها ونموها الاقتصادى بمثل هذه الأصول. لكن إطلاق العنان لقيمتها الحقيقية يتطلب ليس فقط الاستثمار فيها، بل يستلزم أيضا تطوير المهارات والدراية الإدارية، أو رأس المال البشرى اللازم لاستخدامها والاستفادة منها بفعالية. يشير استطلاع أجراه معهد ماكينزى العالمى وشارك فيه أكثر من 860 مسئولا تنفيذيا إلى أن الفارق الرئيسى بين الشركات السريعة النمو والشركات البطيئة النمو هو أن الأولى لا تكتفى بزيادة الاستثمار فى الأصول غير المادية وتقدير أهمية تعزيز الميزة التنافسية، بل تركز أيضا على توظيفها بفعالية.
وعلى هذا فإن بروز الأصول غير المادية على نحو متزايد يفرض حتمية رفع المهارات والقدرات بشكل أكثر حدة. من المحتمل أن يكون هذا الشكل الجديد الناشئ من الرأسمالية مبهرا من منظور الأشخاص المؤهلين الذى يتمتعون بمهارات محمولة بدرجة كبيرة، لكنه سيكون أكثر ترويعا إلى حد ما فى نظر الأشخاص الأقل مهارة والأقل تمرسا فى المجال الرقمى. كما أن الشركات التى تفتقر إلى الموارد اللازمة لتنفيذ الاستثمارات الضرورية فى الأصول غير المادية قد تزداد تخلفا عن الركب. وهذا يعنى أن الاقتصاد غير المادى ربما يهدد بكونه وصفة أكيدة للتفاوت بين الناس إذا لم نكن حريصين على إدارته بشكل جيد ومدروس.
خلص بحث سابق أجراه معهد ماكينزى العالمى إلى أن السمة المميزة الأساسية التى تتمتع بها الشركات «الخارقة» هى استثمارها فى الأصول غير المادية، بما فى ذلك الإنفاق الضخم الواسع النطاق لرفع مهارات وقدرات موظفيها. فى عام 2019، على سبيل المثال، أعلنت أمازون عن خطط لإنفاق 700 مليون دولار فى غضون ست سنوات لإعادة تدريب 100 ألف موظف. كما وضعت شركات أخرى عملاقة فى مجال التكنولوجيا، بما فى ذلك جوجل وآى بى إم، خططا مماثلة.
لكن تركز الإيرادات والأرباح على نحو متزايد فى يد مجموعة صغيرة من الشركات الناجحة يهدد بزيادة الفوارق فى الدخل والثروة. تميل الشركات الخارقة التى تستثمر بكثافة فى الأصول غير المادية إلى توظيف أعداد أقل من العاملين من ذوى المهارات العالية، والأفضل أجورا الذين هم فى عموم الأمر أكثر إنتاجية من الموظفين فى الشركات الأقل رقمنة. وإذا تقدمت هذه الشركات الخارقة إلى الأمام شوطا أبعد، فقد تسجل حصة العمالة فى الدخل الوطنى ــ النسبة المئوية التى تذهب إلى تعويض العمال ــ المزيد من الانخفاض.
ليس المقصود بهذا أن الشركات الناجحة القائمة على الأصول غير المادية يجب أن تُــمـنَـع من المزيد من التوسع أو من تدريب موظفيها. الواقع أن هذه الشركات تشكل مصادر مهمة للإبداع والابتكار والنمو العالى الإنتاجية، كما تتمتع بحوافز هائلة للاستمرار فى الاستثمار فى الأصول غير المادية. عوضا عن ذلك، ينبغى للشركات والحكومات أن تبذل قصارى جهدها لنشر المهارات التى من شأنها أن تفتح الفرص لمزيد من الأفراد والشركات فى الاقتصاد الرقمى.
•••
الحق أن قيمة ضخمة أصبحت على المحك الآن. فى ضوء الأدلة المتزايدة التى تؤكد على علاقة الارتباط بين الاستثمار فى الأصول ونمو القيمة المضافة الإجمالية، ينبغى للمسئولين التنفيذيين وصناع السياسات أن يسألوا أنفسهم ما المطلوب لتحقيق الفرص المتمثلة فى الأصول غير المادية. إذا حصلت 10% إضافية من الشركات على ذات الحصة من الاستثمار فى الأصول غير المادية ونمو القيمة المضافة الإجمالية التى تحصل عليها الشركات الأكثر نموا، فقد ينتج عن ذلك إضافة تريليون دولار إلى القيمة المضافة الإجمالية، أو زيادة بنحو 2.7% فى مختلف القطاعات فى اقتصادات منظمة التعاون الاقتصادى والتنمية.
تستطيع الحكومات أن تلعب دورا رئيسيا فى إعادة تشكيل المهارات وضمان توفر البنية الأساسية المعرفية الصحيحة فى المكان المناسب. وهذا يعنى التركيز على التعليم، والإنترنت، وغير ذلك من تكنولوجيات الاتصال، والتخطيط الحضرى، والإنفاق على العلوم العامة.
لقد أصبح الاقتصاد الرقمى غير المادى حقيقة واقعة قائمة، ومن غير الممكن وقف انتشاره. والآن يتمثل التحدى فى إدارة الانتقال على النحو الذى يعود بالفائدة على كثيرين وليس قِـلة قليلة من الناس.
النص الأصلي