المواطن أبيض
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 19 ديسمبر 2012 - 9:25 ص
بتوقيت القاهرة
مفكرو العالم القديم، أى عالم القارات الثلاث أوروبا وآسيا وأفريقيا، منشغلون هذه الأيام بقضايا انفراط الدول وحركات الانفصال المتزايدة عددا وقوة. يعتقدون أننا نعيش فى مرحلة تشهد عملية إعادة رسم الخريطة السياسية لقاراتهم جميعا. ففى الشرق الأوسط نتحدث عن خطة تقسيم جديدة يميل البعض فينا إلى تسميتها بسايكس بيكو الثانية. سايكس بيكو الأولى رسمت خريطة لدول عربية متعددة فى غرب آسيا وتضع الأساس الذى قامت عليه جامعة الدول العربية بعد أكثر من عشرين عاما. سايكس بيكو الثانية تزيل هذا الأساس لتضع حسب رأى هذا البعض أساسا لمنظمة إقليمية جديدة. وفى أفريقيا نشهد عملية سقوط هائل لمبدأ قدسية الحدود السياسية فى القارة السوداء. وفى أوروبا حيث مسقط رأس «الدولة القومية» نرى ماثلة أمامنا بوادر تحركات جادة فى اتجاه انفراط دول مثل إسبانيا وبلجيكا وبريطانيا على الدرب ذاته الذى سلكته شعوب تشيكوسلوفاكيا ويوغوسلافيا خلال عقد التسعينيات.
على الناحية الأخرى من الأطلسى ينشغل مفكرو العالم الجديد، وبخاصة الولايات المتحدة الأمريكية، بقضية لا تقل أهمية ولكن من نوع مختلف، قضية تتصل بهوية المجتمع. القضية فى العالم القديم تتعلق بحدود سياسية جديدة الهدف منها الفصل بين شعبين مختلفين فى شىء أو أشياء. شعبان عاشا معا مضطرين أو باختيارهم عقودا وربما قرونا حتى جاء يوم قررا فيه أن يفترقا. أحدهما أو كلاهما أصابه الملل من العيش المشترك أو اكتشف زيف التاريخ المشترك وسخف الرواية أو الأسطورة المختلقة، ويريد أو يريدان، الانفراد بأرض وهوية منفصلة عن أرض وهوية الآخر.
يتحدث الأمريكيون عن عام 2043 باهتمام وترقب شديدين. إنه العام الذى تتوقع معظم الإحصائيات السكانية أن يشهد تدنى نسبة الأمريكيين البيض إلى مستوى يستحقون عند الوصول إليه صفة « الأقلية». بمعنى آخر يعرف الأمريكيون البيض أنهم بعد أن عاشوا ثلاثة أو أربعة قرون يحملون صفة الأغلبية مستمتعين بامتيازاتها الفائقة سيجدون أنفسهم بعد ثلاثين عاما وقد اختلف موقعهم فى المجتمع الأمريكى من مكانة الأغلبية صاحبة القوة والنفوذ والسلطة إلى مكانة الأقلية المحرومة من القوة والنفوذ والسلطة.
أستطيع، بقليل من التأمل، أن أتصور هول ما يدور فى أذهان كثير من السياسيين والمفكرين الأمريكيين. المسألة تتجاوز القوة والنفوذ والسلطة إلى ما هو أخطر بكثير. المسألة لم تعد قضية احتمالية تحدث أو لا تحدث وليست مصيرا ينتظر جيلا أمريكيا لم يولد بعد بل هو مصير جيل قائم. فضلا عن ذلك تظل الحقيقة راسخة وهى أن الأمريكيين البيض صاغوا بل نحتوا نظاما اجتماعيا يضمن لهم مزايا عديدة. ينشأ الطفل الأمريكى الأبيض ويشب شابا فى وضع متميز، متمتعا بأفضلية فى التربية والمدرسة والجامعة، وفى الشارع والحقل والمصنع، وفى مواقع العمل والشركات والبنوك. ثم إنه كمواطن أبيض حظى بمعاملة خاصة فى كتب التاريخ ورتب لنفسه وعائلته نسقا من التوقعات والطموحات يختلف عن النسق الذى رتبه المواطن الأمريكى الأسود والمواطن الأمريكى من أصل إسبانى. أضف إلى ما سبق أنه أبدع حين صاغ عبارة الحلم الأمريكى، وهى العبارة التى كان لها الفضل الكبير فى تشجيع هجرة ملايين الأوروبيين خلال القرنين الأخيرين والمحافظة على المسافة الواسعة التى فصلت بين البيض والسود فى أمريكا.
رغم الجهود السياسية والبيروقراطية عبر السنين تغلب أخيرا العرق واللون لتدخل الولايات المتحدة بعد ثلاثين عاما عصرا جديدا لن تكون فيه الثقافة الأمريكية ثقافة الرجل الأبيض، ولن تعتمد منظومة القيم على تراث وأخلاق وعادات الرجل الأبيض وحده بل سوف تتطبع، والأفكار أيضا، بطابع الأغلبية الجديدة، أغلبية الملونين.
بمعنى آخر، أمريكا لن تكون بعد ثلاثين عاما أمريكا التى نعرفها. أتخيل أشياء كثيرة. أتخيل سيل الإجابات على تساؤل يتداوله مفكرون وأكاديميون أمريكيون. يتساءلون عما إذا كانت كلمة «أبيض» ستعنى بعد ثلاثين أو أربعين عاما المعنى ذاته الذى تعنيه الكلمة نفسها الآن.
أعتقد أن المواطن الأبيض فى مجتمع أغلبيته سمراء لن يكون بصفات المواطن الأبيض فى مجتمع أغلبيته بيضاء. يجب ألا نتوقع أن يسود نفس السلوك الذى تعودنا عليه من الأمريكى الأبيض بعد أن يصبح مواطنا فى دولة أغلبية مواطنيها من غير البيض. بل أعتقد أنه لا يجوز أن نتوقع أن يظل سلوك المواطن الأمريكى الأسود أو من أصول إسبانية على النمط الذى اعتدنا عليه فى زمن الأغلبية البيضاء. قارنت بين بريطانيا فى الخمسينيات والستينيات وبريطانيا الراهنة وراجعت القوانين الأوروبية الجديدة المتعلقة بالهجرة. قرأت عن طلاب من البيض فى جامعات أمريكية يقيمون روابط «لحماية الرجل الأبيض» وأخرى تحمل عنوان «الدفاع عن الحضارة الغربية».
أيقنت أن ما ينتظر أمريكا يتجاوز الخيال.