قراءة في بيان الصندوق

مدحت نافع
مدحت نافع

آخر تحديث: الإثنين 19 ديسمبر 2022 - 7:00 م بتوقيت القاهرة

حينما أصدر صندوق النقد الدولى بيانه الأخير بموافقة مجلس إدارته على التسهيل الائتمانى الممتد لمصر، بقيمة تقدّر بنحو ثلاثة مليارات دولار، وبما يتجاوز 115% من حصة مصر فى الصندوق، فإنه لم يكن يصك شهادة كفاءة أو طعن فى كفاءة الاقتصاد المصرى. لقد صاغ البيان خبراء الصندوق بلغة منضبطة، وبين سطوره تكاد تلمس منطقا دفاعيا عمد إليه الخبراء للدفاع أولا عن التسهيل الممتد آنفا فى عام 2016 وكيف أنه ساعد مصر على تخطّى أزمة كوفيد ــ 19 بمستوى ملحوظ من القدرة على التعافى resilience، وهو الوصف الذى كنت أستخدمه فى وصف الاقتصاد المصرى عبر وبُعيد الأزمة المشار إليها. لكننى أبدا ما كنت لأربط بين تلك القدرة على التعافى، وبين أى وصفة أو مساعدة من مؤسسات التمويل الدولية! فقط كنت أشيد بتنوّع وكبر حجم الاقتصاد المصرى، وبالعديد من الاعتبارات التى جعلت المواطن المصرى أكثر قدرة على تلقّى والاستجابة للصدمات الخارجية بأقل قدر من الهلع، الذى هو عدو الأسواق الأول. كذلك لا يمكن إغفال حسن إدارة عدد من الملفات الاقتصادية بما مكّن من تحقيق تلك الغاية، لكنّ أحدا لا يسعه الزعم بأن تلك الإدارة تمت تحت رعاية أو بمشاركة صندوق النقد الدولى!، بل ربما يجدر القول بأن قدرة أى دولة على تجاوز الأزمة، تعمّقت على الرغم من توجّهات وإملاءات مؤسسات التمويل.
البيان إذن يلمّح إلى أن برنامج عام 2016 وخطط المساعدة لمصر لم تكن لتتعطّل أو لتخفق لولا تعاقب الأزمات، خاصة أزمة كوفيد ــ 19 وأزمة الحرب الروسية ــ الأوكرانية. ومن ثم فلا بأس من تمديد تسهيل جديد مشروط ومقيّد بعدد من الالتزامات على مستوى السياسات الكلية، حتى تصمد الدولة أمام تداعيات الأزمتين، وما نتج عنهما من خلل ملحوظ فى ميزان المدفوعات خلال فترة وجيزة من خلل عميق استدعى تدخّل صندوق النقد بأكبر حزمة مساعدات تم تقديمها لمصر عبر التاريخ.
• • •
ثم يتجه البيان إلى التأكيد على تلك الشروط والقيود المتعلّقة بالقرض الأخير، إما بالتكرار أو باستخدام المترادفات. فيؤكد بيان الصندوق على ضرورة قيادة القطاع الخاص للاقتصاد خلال المرحلة المقبلة، ثم إلى تراجع دور الدولة وحجم استثماراتها فى الاقتصاد المصرى باستخدام لفظ « divestment » وهو مضاد الاستثمار، وعادة ما يستخدم فى سياق بيع الأصول لأسباب أخلاقية أو متعلّقة بالسياسة! لم تعد الخصخصة إذن تعبيرا مناسبا من قبل خبراء الصندوق، وكذلك المزاحمة العكسية « crowdــin» التى استخدمتها حكومة مصر لدى تدشين سياسة ملكية الدولة، للتعبير عن دعوة المستثمر الخاص لمزاحمة الدولة فى ملكية الأصول عوضًا عن مزاحمة مؤسسات الدولة له.
كذلك أكّد الصندوق فى بيانه على ضرورة تبنّى السياسة النقدية فى مصر لسياسة سعر صرف مرن مستدامة ومستمرة. وتعبير «مرن» يسمح للسياسة النقدية بأن تتحرك فى مساحة واسعة من بدائل نظم الصرف التى تتراوح بين التثبيت والتعويم الحر. وقد أشرت فيما سبق فى غير موضع ومقال، إلى أن البنك المركزى المصرى يعتزم تبنّى نظام «الربط المرن» «soft peg » بالدولار الأمريكى، مع السماح لسعر الصرف بالتحرك داخل منطقة مستهدفة أو هامش محدد سلفًا (غير معلن بالضرورة)، على أن يتم تحديد نطاق التحرّك لسعر الصرف، باستخدام مؤشر يتم تركيبه استنادًا إلى سلة من العملات الرئيسية والذهب. وهو نظام ينقلنا من نظامى الربط المتحرك والقابل للتعديل (وكلاهما من أشكال نظم سعر الصرف المختلطة)، إلى نظم ربط تراها السلطة النقدية أكثر مرونة وأكثر تعبيرا عن المؤشرات الاقتصادية، حيث أكد محافظ المركزى أن البنك بصدد إصدار مؤشر للجنيه المصرى يضم سلة من العملات والذهب، فى إشارة إلى أن ذلك المؤشر من شأنه المساعدة فى تحديد قيمة عادلة للعملة تعكس وزنها فى التجارة والمعاملات، ومن ثم المساعدة فى تحديد الهامش الذى يجب أن تتحرك خلاله قيمة العملة الوطنية مقابل أهم العملات، ومن ثم يحدد الوقت والقيمة التى ينبغى عندها أن تتدخل السلطة النقدية للتأثير فى العرض والطلب.
وقد كانت مصر تتبع نظاما وسيطا لسعر الصرف خلال التسعينيات من القرن الماضى، ثم تحوّلت إلى النظم المرنة مع بداية الألفية (وفق ما هو معلن) لكنها بقيت فعليًا فى مساحة الربط المرن أو الزاحف. ولم يكن الاعتماد على سلة عملات عوضًا عن الدولار الأمريكى ليؤثر كثيرًا فى طبيعة الربط المرن تاريخيًا، نظرًا للأهمية النسبية فى وزن الدولار الأمريكى فى حقوق السحب الخاصة، وفى عملة التجارة (بنسبة 80%) وكعملة تقييم وسداد الديون، وعملة الاحتياطى الأهم فى العالم.
ثم ينتقل بيان صندوق النقد الدولى الصادر بموافقته على القرض الممتد لمصر، من سياسة سعر الصرف، إلى سياسة استهداف التضخم وضرورة التشديد النقدى، وهى بمثابة إشارة واضحة إلى حتمية رفع أسعار الفائدة على الجنيه المصرى خلال الفترة المقبلة ولحين السيطرة على انفلات معدلات التضخم. بتلك الملاحظة يشير الصندوق إلى أن القروض والاستثمارات المساعدة (التى تناهز فى مجملها 14 مليار دولار) والتى من شأنها أن تدخل مصر على أرض صلبة مهّد لها الصندوق ببرنامجه وقرضه «الصغير»، لن تأتى إلا بأسعار فائدة مرتفعة تعوّض المقرضين عن المخاطر المتزايدة فى مصر، خاصة مخاطر الائتمان، كما تعوّض المستثمر عن تكلفة فرصته البديلة لو أنه استثمر أمواله فى النظام المصرفى الأمريكى الذى اقتربت فيه أسعار الفائدة على الدولار من 5 %!، ناهينا عن فرص استثماره فى أدوات أعلى مخاطرة بالاقتصادين الأمريكى أو الأوروبى (مثل بورصات الأوراق المالية والسلع والمشتقات)، وما يمكن أن تدره عليه من عائدات تتجاوز أى فائدة على الجنيه المصرى، خاصة أن تلك الفائدة يأكلها التضخم بالفعل وتتحوّل إلى فائدة حقيقية سالبة.
بالطبع لم يفت خبراء الصندوق التأكيد على أن الطبقات الأكثر فقرًا وتهميشًا سوف تعانى بلا شك من تداعيات تلك السياسات والتى نعرف أنها سوف تتحوّل سريعًا إلى تضخم كبير ناتج عن تقويض الاستثمار المحلى (بفعل زيادة أسعار الفائدة) ومزيد من الاعتماد على الاستيراد بدولار منفلت نسبيًا، وعليه فلا بد من تبنّى سياسات حماية اجتماعية، وهو كذلك تعبير فضفاض عن تدابير لا يمكن لأحد قياس كفاءتها بدقة، ولا يتعرّض إلى معاناة الطبقات الوسطى وسبل التخفيف منها، علمًا بأنها الطبقات الداعمة للاقتصادات النامية، والتى يمكنها تمرير أزماتها إلى المهمّشين بسرعة.
• • •
وفى الحديث عن التمويلات الإضافية المتوقعة من أطراف إقليمية ودولية، يتعرّض الصندوق إلى قرض بقيمة مليار دولار تقريبا تأتى من صندوق
فرعى مختص باعتبارات الاستدامة البيئية، كنا نحسبها مضمونة التسهيل، ولكن البيان يشير إلى أنها ستخضع لمباحثات ونقاشات مستقبلية!
وفقا للاتفاق تتلقى مصر دفعة أولى من تسهيل الصندوق الممتد بقيمة 347 مليون دولار، وتصل مدة التسهيل إلى 46 شهرا، ولا يتوقع أن يستمر تدفق الدفعات التالية إلا بالتزام واضح بشروط الصندوق آنفة الذكر، وذلك تحديدا على المستوى الهيكلى المتعلق بانسحاب الاستثمارات العامة من المجال الاقتصادى لصالح القطاع الخاص، وعلى مستوى السياستين المالية والنقدية.
لكن أزمة الدولار لن تجد طريقها إلى الحل المستدام إلا بالتحوّل إلى تعزيز مكمن القيمة فى الاقتصاد المصرى، والذى تعكسه القطاعات الإنتاجية وفى مقدمتها قطاع الصناعة الذى يمكن أن يلعب دورًا قاطرًا لسائر القطاعات، ويحقق رؤية الدولة فى تخفيف الانكشاف الخارجى والاعتماد على الدولار، عبر الإحلال محل الواردات والاتجاه نحو التصدير، وفى هذا يطول الحديث.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved