يحدث في مدينة البط

نيفين مسعد
نيفين مسعد

آخر تحديث: الخميس 19 ديسمبر 2024 - 7:55 م بتوقيت القاهرة

هذه الأيام ثقيلة جدًا على النفس، فلم يعد الواحد منا يعرف هل يريد لآلة الزمن أن تدور بسرعة حتى تنتهي الغمة وتزول، أم يريد منها أن تتوقف لأن القادم قد يكون أسوأ. الاختيار صعب والوضع كله صارcondensed أو معقّد على رأي فؤاد المهندس في مسرحية "حواء الساعة ١٢". كان المؤلف الأستاذ سامي أو فؤاد المهندس قد أرسل الناشر الأستاذ فرغلي أو عبد الله فرغلي إلى مستشفى الأمراض العقلية بدلًا منه. وعندما اجتمع الاثنان بعد ذلك وطلب فرغلي توضيحًا من سامي لما فعله به- لم يكن لدى هذا الأخير ما يبرر به فعلته، فراح يلّف ويدور ويقول كلامًا من نوع: سيادتك لما جيت همّا (أي ممرضي مستشفى الأمراض العقلية) جُم، والموقف كله أصبحcondensed بصورة مش معقولة يا افندم، ودي كل الحكاية من الألف إلى الياء بدون أي لبس أو مواربة أو التفاف. ومع أن هذا أي كلام كما هو واضح، إلا أن الأستاذ فرغلي هزّ رأسه بالموافقة قائلا: طيب يا ابني مش كنت تقول كده من الأول. اليوم أشعر أنني مثل الأستاذ فرغلي أواجه/نواجه موقفًا condensed ونحن نرى الجميع يشتغلوننا ويحاولون إيهامنا بأن الوجوه التي نراها في برّ الشام ليست هي نفس الوجوه القديمة التي رأيناها في أماكن أخرى من العالم بل وفي بر الشام ذاته.
• • •
في انشغالي بالمستقبل واتجاهاته لم أعد أميل إلى التحليلات الاستراتيچية الكبيرة، فهذه التحليلات لم تتنبأ بأن ما قد صار سوف يصير. وبالتالي لم لا نبحث عن رؤية من خارج الصندوق؟ في لحظة من لحظات التجلّي راودتني فكرة أن الخوض في المستقبل يحتاج إلى شخصية لطيفة وبسيطة ورائقة أيضًا، لعل هذا الروقان يساعد على إنارة البصيرة والانتقال من مجرد التنبؤ إلى التغيير للأفضل. الشخصيات اللطيفة كثيرة جدًا بالطبع لكن لسبب لا أعلمه سيطرَت عليّ شخصية العمة زيزي في عالم ديزني. مثلي مثل كل مَن هم في عمري وربما حتى أبناء الجيلين الثاني والثالث من بعدي- كلنا كنا نحب شخصيات مدينة البط. وكنّا/كنت أنتظر يوم الخميس بكل لهفة لأقرأ مجلة ميكي، وأحس أنني أنتمي لهذا العالم الجميل بكل تفاصيله، لكن العمة زيزي أو بطوطة كانت تجذبني بشكلٍ خاصٍ. مرّت السنوات وصرت أمًا وشاءت الظروف أن أزور مع ابني وابنتي مدينة ديزني في فرنسا، ورأيتُ كل الشخصيات التي ارتبطتُ بها في طفولتي تمشي على قدمين فتنافسَت سعادتي مع سعادة ابنّي، والتقطنا نحن الأربعة صورًا فقدتها بالانتقال من بيت لبيت.
• • •
لماذا اخترتُ زيزي أو بطوطة؟ اخترتها لأنها بطة خفيفة الدم ومحاطة بالأصدقاء. مزعجة أحيانًا وثرثارة تحب الرغي، لكنها مرحة متفائلة بعيدة عن النكد، تخرج وهي على سنجة عشرة بفيونكة كبيرة على رأسها وإسورة في يدها وحذاء بكعب عال ورموش تكاد تلامس جبينها، وتلك تفاصيل تساعد على صفاء الذهن وتؤدي للتفكير السليم. لكن هذا ليس هو كل شئ، وذلك أن زيزي شخصية قوية ومستقلة وجريئة، وقادرة على التصرف بحسم عند الضرورة. لكن عالم البط البسيط له مشاكله التي تشبهه وهذا يجعل مهمة زيزي سهلة إلى حدٍ كبيرٍ. يختلف بطوط مع جاره السمج أبو زنّة ويتراشقان بكرات الثلج فيكتشف بطوط أنه لا يجيد التصويب ويكتئب، وهنا تظهر زيزي لتطيّب خاطره وتروّح عنه. يعمل بطوط ليل نهار بمنتهى الهمّة لكنه بسبب سوء حظه لا يحصل إلا على أقل القليل وفي المقابل يتحول التراب مع ابن خالته محظوظ إلى ذهب- فتقف زيزي إلى جانب خطيبها وتخفف عنه شعوره بالنقص. الآن كبرنا وكبِرَت معنا مشاكلنا ومشاكل العالم من حولنا.. كبرت بشكلٍ يصعب تصديقه، فكيف يمكن لبطوطة أن تتأقلم مع هذا الواقع العجيب؟
• • •
تقمَصتُ شخصية العمّة زيزي، وقررتُ تكليفها بمهمة أكبر. خرجتُ بكعبي العالي وفي كامل هندامي لأتجولّ في مدينة البط وأقف على البير وغطاه. صادفتُ في طريقي عصابة القناع الأسود التي لا يكف أفرادها عن محاولة سرقة العم دهب، وهذا الأخير هو ذكر بط شديد الثراء وشديد البخل أيضًا. يضع عم دهب القرش فوق القرش ويدفع أقل القليل إلى العاملين عنده ومنهم بطوط، ولا يحسن معاملة صغار العائلة. علمتُ أثناء تجوّلي أن أولاد أخت خطيبي بطوط أي سوسو ولولو وتوتو قد تمردوا مع آخرين على سلوك عم دهب، وعلمتُ أيضًا أن ريري وفيفي وتيتي بنات أخت زيزي قررن الانضمام إلى حركة التمرد لأن الاستياء كان عامًا، وهكذا مشى الجميع في مظاهرة منظمة بمحاذاة النهر صائحين: البط كاك.. يريد كاك.. إسقاط عم دهب. تحركتُ بسرعة ودعوتُ لاجتماع عاجل يجمع بعض الأصدقاء الحريصين على هدوء مدينة البط، فحضر الكلب المخلص بندق، وحضر عبقرينو ليسعفنا بذكائه، كما حضرَت معنا من الأقارب الجدة بطة لأن الحكمة مطلوبة في هذا الظرف. استمر الاجتماع حوالي ساعة وشعر الجميع بالجوع فذهب بندق وأتى لنا ببعض الخضروات لنأكل، ثم واصلنا العمل.
• • •
انتهينا إلى أن عم دهب عليه أن يتغيّر لأن الوضع خطير فعلًا، فاستدعيناه ليلحق بنا في الاجتماع فجاء متضررًا. استمع إلينا عم دهب حوالي نصف ساعة، واستخدمتُ أنا كل قدراتي التفاوضية لإقناعه، وأخيرًا اقتنع بأنه حرصًا على سلامته وسلامة مدينة البط لابد من تحقيق العدل وإعطاء كل ذي حق حقه، وبدا أنه قد وافق على التغيير . ومع الإعلان عن نتيجة الاجتماع عمّ السرور في كل الأنحاء وتوقفَت المظاهرات. قمت بحركة لاشعورية بضبط الفيونكة الكبيرة على رأسي استعدادًا لالتقاط صورة جماعية. وفي انتظار أن ينفّذ عم دهب وعده بتغيير أفكاره ويقطع علاقته مع ماضيه السئ، فإننا لن نقبل منه أن يخدعنا بمجرد تغيير اسمه من عم دهب إلى عم ألماظ مثلًا، كما لن نقبل منه كلامًا مراوغًا كذلك الكلام الذي قاله الأستاذ فرغلي للأستاذ سامي: يا افندم سيادتك لما جيت همّا جم.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved