إسلام القيم أم إسلام المصالح
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الخميس 20 يونيو 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
عبر القرون، وإلى يومنا هذا، والمجتمعات فى كل بقاع الدنيا تحاول حل إشكالية العلاقة المعقدة المبهمة بين الدين والسياسة. من بين تلك المحاولات مدرسة فكرية سياسية تفرق بين دخول الدين فى حقل السياسة كقيم أخلاقية وسلوكية لكى تسمو بالممارسة السياسية وتبعدها عن قبول الماكيافيلية التى تجيز ممارسة الكذب والخداع والفصل بين الأخلاق والسياسة، وبين دخول الدين فى حقل السياسة من خلال رجال دين مهيمنين على مجريات الحياة السياسية أو من خلال مؤسسات دينية تدعى قربها من وتحدثها باسم الذات الإلهية، وبأن ذلك القرب يعطيها الحق فى امتلاك السطوة والنفوذ لتوجيه أمور الحكم وقيادة مؤسسات السلطة.
ممارسة الشق الثانى من المعادلة فى مجتمعات الغرب، من خلال التدخلات السافرة الانتهازية من قبل الكنيسة فى شئون الحكم والسياسة، هو الذى أدى إلى طرح مفهوم العلمانية الكاملة الشاملة التى قادت إلى الفصل الكامل المبالغ فيه أحيانا بين كل تمظهر للدين، خصوصا مؤسساته ورجالاته وبين الحقل السياسى. وعندما صرخ دنيس ديدور صرخته الشهيرة: «دعنا نخنق آخر ملك بمصارين آخر قس»، فإنه عبر عن أقصى درجات الانتقام من ثنائى مؤسسة الحكم الاستبدادى ومؤسسة التنظيم الدينى. لقد كانت تجربة الغرب مع الكنيسة صاخبة ومفجعة.
●●●
فى بلاد العرب والمسلمين الآن ينطق بعض رجالات الدين الإسلامى بأقوال، وتتصرف بعض مؤسساته بقرارات وأفعال تذكر الإنسان بالحماقات التى ارتكبتها الكنيسة وبعض رجالاتها فى غرب العصور الوسطى التى لم تؤد فقط إلى فقدان الكنيسة مكانتها ونفوذها وتواجدها الدنيوى وإنما أيضا إلى أفولها الروحى والرمزى. وهكذا فقدت مجتمعات الغرب مصدرا قيميا روحيا كان بإمكانه المساهمة فى تخفيف حدة توحش وأنانية بعض أنظمتها وممارساتها السياسية والاقتصادية.
من هذا المنطلق نطرح الملاحظات والأسئلة التالية بعد أن تشوهت مؤخرا فى بلاد العرب والمسلمين العلاقة بين الدين والسياسة وأصبحت إشكالية كبرى تحتاج إلى مواجهة صريحة وصادقة.
أولا: لقد قيل وكتب الكثير عن الظاهرة الجهادية العنيفة الإرهابية التى تجذرت فى الوطن العربى وفى العالم الإسلامى، وامتدت إلى أصقاع الأرض، لتصبح منهجا له فكره وتبريراته وأساليبه الدموية. إنه منهج يستعمل يوميا بتعسف وبقلة مروءة فى صراعات ومواجهات سياسية لا تمت بأية صلة لمقاصد الدين الإسلامى ولسمو قيمه. لقد ديس على قيم العدل والقسط والرحمة والسلام، وكل القيم الإسلامية الإنسانية الأخرى المبهرة، باسم الجهاد والمقاومة وحقوق هذه الجماعة أو تلك. وهكذا أدخل الدين فى لجج السياسة فى الداخل والخارج لا كمرجعية قيمية وأخلاقية ضابطة للممارسة السياسية وإنما كمصدر للانتقام المبتذل وللصراع العبثى وللتخلف المفجع فى فهم مقاصد الدين الكبرى.
ثانيا: لقد أفرزت حقبة ما بعد ثورات وحراكات الربيع العربى فى بعض الأقطار العربية وصول بعض الأحزاب التى ترفع شعارات الإسلام السياسى، وذلك من خلال انتخابات نزيهة شفافة، وصولها إلى مراكز قيادات الحكم والسلطة. غير أن رجالات تلك الأحزاب لم يتصرفوا باسم الدولة التى يقودون ويحكمون وإنما باسم الأحزاب التى ينتمون لها، أى باسم الدين الذى تدعى تلك الأحزاب أنها تدافع عنه. ومع الأسف فقد أظهرت الأيام والأحداث أن فهم تلك الأحزاب لذلك الدين لم يزد على كونه فهما مذهبيا طائفيا لا دخل له بدين الإسلام الجامع المتسامح.
لقد تجلى ذلك أكثر ما تجلى فى التعامل مع الوضع المأساوى الحزين فى سوريا، فنظر إليه لا كحراك شعبى ثورى من أجل حكم ديموقراطى وإنما كصراع طائفى بين مذهبين إسلاميين. والنتيجة كانت أنواعا من الأخطاء غير المبررة التى ارتكبتها أنظمة الحكم الإسلامية فى دول من مثل تركيا ومصر وتونس. لقد تغلبت مصالح والتزامات الحزب على مصالح والتزامات الدولة باسم زج خفى مذهبى للإسلام فى حلبة صراع سياسى. ومرة أخرى لم يلعب الإسلام دورا من خلال قيمه وسمو أخلاق رسالته، وإنما من خلال مصالح رجال ومؤسسات تدعى النطق باسم هذا الدين المبتلى.
ثالثا: دعنا نضيف إلى ذلك تدخل بعض السلفيين المتزمتين، و بعضهم فى مؤسسات الحكم فى حياة الأفراد لا من خلال الوعظ الحسن وإنما من خلال الضغوط والعنف، ونضيف وجود عشرات المحطات الفضائية الدينية الناطقة باسم هذه الجماعة أو تلك والتى تسمم الأجواء السياسية وتبث سموم الفرقة والتخاصم وترفع شعارات العنف والتصلب، ونضيف خطابات الكراهية والتحقير والتشويه التى تتبناها بعض وسائل الإعلام الرسمية وغير الرسمية ضد مطالب سياسية بحتة يرفعها المنتمون لهذا المذهب أو ذاك، ونضيف الجنون الجديد الذى ابتدع ونقل جهاد المسلم من دار الحرب إلى دار المسلمين، جهاد المسلم ضد أخيه المسلم، وذلك كله باسم أجندة طائفية متخفية مقنعة، إذا أضفنا ذلك وأكثر أدركنا المحنة التى وصلت إليها مجتمعاتنا باسم زج خاطئ أو غير منضبط أو انتهازى للدين الإسلامى فى أتون السياسة، زج لا دخل له بالقيم وإنما مغموس بمصالح الرجال والمؤسسات المدعين النطق باسم الإسلام.
والسؤال: هل يا ترى سيستطيع مناضلو الربيع العربى حماية الدين وحماية السياسة من جنون العابثين؟
مفكر عربى من البحرين