العولمة... للخلف در
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 20 يونيو 2022 - 9:15 م
بتوقيت القاهرة
لا جديد تحت الشمس، روسيا مستمرة فى عملياتها العسكرية فى أوكرانيا، والعقوبات الغربية على الدب الروسى تمزق أوصال المعسكرين، والتضخم يلتهم كل منتجات العالم، والفيدرالى الأمريكى يواصل رفع أسعار الفائدة يتبعه فى ذلك العديد من البنوك المركزية، ومؤشرات البورصات تواصل تداعيها لحالة عدم اليقين وارتفاع العائد على أدوات الدين، والعملات المشفرة تهوى بمعدلات تراجع غير مسبوقة لتسقط عن عرشها الفقاعى، والشتاء البارد فى غيبة الغاز الطبيعى والنفط الروسيين يتوعد أوروبا بمصير أسوأ من الجائحة، والجميع يترقبون الركود وربما الكساد التضخمى لكن أحدا لا يعرف كيف يبدأ ومتى ينتهى؟!.
• • •
المؤكد أن العولمة تواجه اليوم التحدى الأكبر فى تاريخها، والانكفاء على الذات والتمركز حولها ربما صار البديل المناسب للدول الكبرى والغنية، التى يمكنها الاعتماد على مواردها الذاتية بشكل أكبر، وتعميق إنتاجها المحلى، وتوطين سلاسل الإمداد فى مختلف المجالات على نحو يسمح بالحد من الاستيراد، بل وتعظيم دور الاستثمار المحلى على حساب الاستثمار الأجنبى ولو فى الأجل القصير. أما الدول التى لن تتمكن فى أى مستقبل منظور من الاستغناء عن الاستيراد وتدفقات الاستثمارات والمساعدات والقروض الأجنبية، من أجل سد فجوة الطلب المحلى وتمويل ضرورات التنمية، فعليها أن تبحث سريعا عن موقع مناسب لها بين التحالفات الإقليمية، لتعويض النقص فى مواردها الذاتية وتوقف قطار العولمة تمهيدا لارتداده على آثاره قصصا.
ويعد مشروع الشراكة الصناعية التكاملية بين مصر والأردن والإمارات تجسيدا مهما لتحالف الضرورة، الذى يمكن أن ينتج العديد من المشروعات القاطرة لمزيد من أوجه التعاون الإقليمى بين دول لا يشترط أن يجمعها سوى المصالح الاقتصادية المشتركة العابرة للأيديولوجيات، ولبعض تجليات عدم التجانس السياسى والعرقى.
ووفقا لما تم الإعلان عنه فى مؤتمر خاص بتلك الشراكة المرتقبة فى العاصمة الإماراتية نهاية مايو الماضى، تتركز الشراكة على الاستثمار فى قطاعات صناعية متنوعة تشمل: التصنيع الزراعى والأغذية والأسمدة والأدوية والمنسوجات والمعادن والبتروكيماويات، وذلك بغرض تعزيز التنمية الاقتصادية وتحقيق التكامل الصناعى وتكامل سلاسل القيمة بين الدول الثلاث.
الشراكة المذكورة تقوم على مبدأ تعظيم المزايا النسبية التى تمتلكها كل دولة بغية تحقيق التكامل المنشود فى عدد محدد من القطاعات. فإذا كانت مصر قد حققت منذ أعوام قليلة فائضا ملحوظا فى منتجات الطاقة وآن لها أن تصدرها بقيمة مضافة، فإن مزيدا من تعميق وتوطين الصناعات الثقيلة كثيفة استهلاك الكهرباء والغاز الطبيعى، يمكن أن تقام على أراضٍ مصرية، برءوس أموال إماراتية، وخامات طبيعية أردنية، مستفيدة من عبقرية الموقع الجغرافى والسوق الكبيرة التى تتحقق فى مصر كأكبر دولة فى المنطقة من حيث عدد السكان، وموفرة للأيدى العاملة المصرية القانعة بمستويات معقولة للأجور، ومستثمرة لموانئ وإمكانات الإمارات العابرة للأسواق المتقدمة بتطور خدمات التسويق والشحن والتفريغ.
• • •
لكن السؤال الذى من العدل أن يطرح نفسه مرارا: ما الذى يميز تلك الخطوة عن أى خطوات عربية سابقة كانت أكثر طموحا وأوسع أثرا للتعاون الإقليمى المشترك؟ والإجابة على هذا السؤال المنطقى تكمن فى رأيى فى عاملين رئيسين: أولا، الضرورة الملحة التى جعلت من «الأقلمة» وريثا شرعيا للعولمة، تحت وطأة عالم مرتبك بتداعيات الجوائح والحروب والعقوبات الاقتصادية. ثانيا، العقلانية الشديدة فى اختيار أوجه ودرجة التكامل الإقليمى، بعيدا عن شعارات الاستهلاك
الإعلامى التى لم تحقق أهدافها فى السابق، ولم تخلف وراءها سوى مكتبة ضخمة من الأغانى القومية، واتفاقات تم إهدارها قبل أن يجف مدادها.
كانت «الشروق» قد نشرت لى مقالا فى مطلع نوفمبر 2021 تحت عنوان «حلم التكامل الاقتصادى العربى» وفيه كتبت ما نصه: «ونظرا لطبيعة التدفق المعلوماتى وسرعة التراكم المعرفى التى يمتاز بها عصرنا الراهن، ونظرا لعجز التجارب السابقة المؤسسة على دراسة فرص التكامل العربى على أسس من التقسيم القطاعى للنشاط الاقتصادى، فإن المنهج الأكثر مرونة والأسرع نفاذا إلى الهدف يمكن تأسيسه على «المشروعات القاطرة». وأعنى بذلك مشاركة الدولة وممثلى القطاع الخاص بالدول الأعضاء فى إطلاق عدد من المشروعات الإقليمية الكبرى المشتركة، التى تصلح قاطرة للنمو الاقتصادى بمجموعة الدول المساهمة فيه، وتصلح أيضا كدعامة لتوسيع نطاق التعاون الاقتصادى الإقليمى على نحو متكافئ.
المشروع القاطرة يجب أن تتوافر فيه مزايا الحجم الكبير من حيث عناصر الإنتاج المختلفة وفى مقدمتها العمل ورأس المال. ويتميز أيضا بكونه يوظف المزايا النسبية للدول المساهمة على نحو فعال ومتزن إلى أقصى حد ممكن، وأن تتشابك فى إطاره سلاسل الإمداد بشكل يسمح بتكوين شبكات عنقودية من المشروعات القاطرة حتى تصير فى مجملها كيانا إقليميا كبيرا يفوق فى حجمه اقتصادات كثير من الدول.
وإذا كان معرض إكسبو 2020 فى دبى يمثل فرصة ونافذة نادرا ما تتكرر فى هذا الإقليم، ويقام على أرض دولة عربية تتمتع بكثير من مزايا الترابط الخدمى والتجارى مع مختلف دول العالم، فإن المعرض الذى يستمر حتى أبريل من العام المقبل يمكن أن يشهد تأسيس عدد من تلك المشروعات والبناء عليها فى المستقبل».
بالفعل لم تدع الإمارات العربية فرصة «إكسبو» تمر قبل أن تستطلع رأى الخبراء فى كيفية استثمار الحدث، ليصبح أطول عمرا وأكثر استدامة. وقد شرفت بأن كنت بين هؤلاء الذين قدموا لمراكز الأفكار رؤية لاستثمار الحدث بما ينفع الإمارات والمنطقة كلها. وجاءت القطاعات المختارة لتحقيق التكامل الإقليمى المصرى الأردنى الإماراتى، مستوفاة لشروط الحجم واستغلال المزايا النسبية التى رأيت أن تتخذ أساسا للمشروع القاطرة المنشود. صحيح أن سبب كتابة المقال المشار إليه كان اختيارى عضوا بالهيئة الاستشارية العليا لمجلس الوحدة الاقتصادية، وانعقاد الآمال مجددا على تحقيق تلك الوحدة من خلال ذلك الإطار المؤسسى الجامع، لكن وجب الإقرار بأن حجرا لم يتحرك من مكانه فى ذلك المجلس، بل إن الهيئة الاستشارية لم تجتمع إلا لتدشينها! وهذا يتفق مع رؤيتى المتواضعة فى أن التجمعات الإقليمية الكبيرة والطموحات الواسعة لن تحقق أى شىء حتى إذا توافرت الإرادة السياسية للدول، لأن النجاحات الصغيرة ذات الأثر العميق مطلوبة لإطلاق تجربة التكامل العربى من عقالها الذى خضعت له منذ عقود، ولتحرير العقل العربى من فكرة أن العرب قد اتفقوا على ألا يتفقوا أبدا.
وحدها المصالح المشتركة والممتزجة بالمال الخاص الهادف للربح يمكنها أن تقود عناقيد من المشروعات القاطرة. ولا ينبغى أن نندفع خلف عاطفة زائفة نحو توسيع نطاق ذلك الاتفاق الوليد بين الدول العربية الثلاث، بل يتعين علينا أن نبقيه منعزلا فى حضانته حتى نتأكد من أنه قادر على الحياة مستقلا عن إرادة الزعماء، بل وعن أحلام وتطلعات الشعوب نفسها، أن يحيا فقط بدعم من الوقود الذاتى الناتج عن نجاح المشروعات القاطرة، بمعايير النجاح العالمية التى تجذب الاستثمارات لا الشعارات أو المكاسب السياسية الزائلة.
ستتحول مصر بمناطقها الصناعية وقدراتها الاستثنائية فى استغلال مواردها المحدودة إلى مركز إقليمى للصناعات كثيفة استغلال الطاقة، بل وسوف تساعدها بنيتها الأساسية وموقعها الجغرافى واستقرارها الأمنى على تعويض جانب من الدور الروسى فى أوروبا كمركز لتصدير الطاقة، من خلال إسالة وتصدير الغاز الطبيعى إلى القارة العجوز كما تفعل الآن مع عدد من دول قارة آسيا المستوردة للغاز المسال من مصر. وفى ذات السياق علينا أن نستعد إلى متطلبات تحول الطاقة التى تفرض على العالم كله الاستغناء التدريجى عن الوقود الأحفورى وتخفيض الانبعاثات الكربونية، بغية السيطرة على ارتفاع درجات حرارة الأرض. وسوف تكون قمة الأطراف COP27 التى تستضيفها مصر بمشيئة الله قبل نهاية العام، فرصة جيدة لتدشين رؤية مصر واستراتيجية الطاقة 2040 من منظور دولة كبرى، تمارس دورا محوريا فى إمدادات الطاقة النظيفة إقليميا وعالميا.