الحرب الأوكرانية ومصير القطبية الأحادية
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 20 يونيو 2022 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
ألف الورى منذ عهدهم بالدولة الوطنية أواسط القرن السابع عشر، تهافت القوى العظمى، على استغلال عبورها أعتى الأزمات الدولية، أو انتصارها فى أشرس الحروب الكونية، للتبشير ببزوغ نظام عالمى جديد، يدور فى فلك هيمنتها شبه المطلقة.
بانقضاء زمن حروب البيلوبونيز، التى أرهقت أثينا واسبرطة خلال الفترة من القرنين السابع، إلى الخامس قبل الميلاد، أدرك العالم حقبة «السلام الرومانى»، أو Pax Romana، تجسدت خلالها الهيمنة الرومانية على الكوكب، بكل ما نضحت به من استقرار، وازدهار، داما 206 أعوام،بدأت بصعود، أغسطس قيصر، كأول إمبراطور رومانى عام 27 ق.م، حتى وفاة، ماركوس أوريليوس، سنة 180م. وبانتصار بريطانيا على فرنسا، فى معركة «ووترلو» عام 1815، طوت الحروب النابليونية سجلاتها الدامية. وفى عقبها، برز نظام عالمى أحادى القطبية، فرضت خلاله بريطانيا العظمى فترة «السلام البريطانى» أو Pax Britanica، امتدت إلى أن وضعت الحرب الكونية الأولى أوزارها عام 1918. وما إن لملمت الحرب الباردة أوراقها بسقوط الاتحاد السوفييتى، وتفكك حلف وارسو عام 1991، حتى ظهر النظام أحادى القطبية، الذى انفردت الولايات المتحدة بقيادته، ضمن صيغة Pax Americana، إلى يومنا هذا.
طيلة ثلاثين عاما مضت، تسنى لواشنطن الحفاظ على قطبيتها الأحادية. فإلى جانب براعتها فى تجديد ركائز قوتها الشاملة، لم تكن منافستاها روسيا والصين مؤهلتين، أو حتى راغبتين، فى مقارعة الهيمنة الأمريكية. لذا، استمر «شبه السلام الأمريكى»، الذى تعكر صفوه ببعض الحروب المحدودة الخاضعة للسيطرة. وتواصلا مع ما أسماه، فرانسيس فوكوياما ،«نهاية التاريخ»، حيث ضمور الشيوعية وصعود الليبرالية والديمقراطية الغربية، صك الكاتب «تشارلز كراوث»، فى العدد قبل الأخير من دورية «فورين أفيرز» الأمريكية، تعبير«لحظة العالم أحادى القطب»، التى تتمتع فيها الولايات المتحدة بكونها القوة العظمى المهيمنة بلا منازع. أما، ويليام وولفورث، فتوقع للقطبية الأحادية، أن تبقى لفترة تتجاوز حقبتى القطبية الثنائية، والتعددية القطبية. استنادا إلى أن قابلية العالم أحادى القطب للاستقرار، تجعله أكثر جدارة بالاستمرار، على غرار، السلام الرومانى، الذى تخطى القرنين. ثم البريطانى، الذى دام قرنا كاملا.
توشك الحرب الأوكرانية، أن تتحول إلى مواجهة كونية، بعد تأجيجها للعسكرة، وإرباكها للاقتصاد العالمى، وتهديدها لأمنى الطاقة والغذاء. فمجددا، انبعث الجدل الاستراتيجى حول مستقبل النظام الدولى، ومآلات القطبية الأحادية. هنالك، برزت مقاربة أمريكية، تنشد استبقاء الهيمنة المنفردة. فإبان اجتماع المائدة المستديرة للأعمال بالبيت الأبيض، فى مارس الماضى، استلهم، الرئيس بايدن، تجربة سلفه، بوش الأب، عقب حرب الخليج الثانية، ليبشر بنظام عالمى جديد، تقود خلاله واشنطن العالم الحر، فى مواجهة القوى السلطوية. حيث يتطلع الأمريكيون إلى تأبيد النظام أحادى القطبية، متسلحين بـ«عقيدة وولفيتز»،التى صاغها السياسى الأمريكى المعروف بحماسه للتفوق الأمريكى، بول وولفويتز، عقب تهاوى المعسكر السوفييتى. إذ تلزم الولايات المتحدة بمواصلة احتكار القيادة الأحادية للنظام الدولى، وعدم السماح لأية قوة عظمى أخرى بتوظيف قدراتها ومواردها لتغدو قطبا عالميا ينازعها تلك القيادة. مع تطوير آليات ردع المنافسين المحتملين، والاحتفاظ بحق التدخل فى أى مكان وزمان، تراهما مناسبين أو ضروريين لاستدامة ذلك الوضع.
تعتبر الاستراتيجية الأمريكية الجديدة روسيا خطرا آنيا، والصين تهديدا استراتيجيا. وبناء عليه، توالت جهود إدارة بايدن، لإطالة أمد الحرب الروسية فى أوكرانيا، عبر تكثيف المساعدات المالية والعسكرية والاستخباراتية لكييف، توسلا لعزل الدب الروسى واستنزاف قوته. بما يبعث برسالة إلى الصين حول كلفة أية مغامرة للسيطرة على تايوان بالقوة. بالتزامن، تعكف واشنطن على إجهاض أى تحالف استراتيجى محتمل بين بكين وموسكو. وقبل قليل، جاءت زيارة بايدن لليابان، واجتماعه مع قادة مجموعة «الكواد»، ثم تجديده التزام بلاده الدفاع عن الحلفاء، وإبرامه «الاتفاقية الشاملة للشراكة عبر المحيطين الهندى والهادى»، لتمتين التحالف الرباعى، الذى يمثل حجر الزاوية للاستراتيجية الأمريكية لكبح جماح التنين الصينى. بما يتناغم ووثيقة، بايدن، المعنونة «التوجيه الاستراتيجى المؤقت لاستراتيجية الأمن القومى»، والتى تطالب وكالات الأمن القومى، بالتأهب لمخاطر الصين، التى أمست المنافس الوحيد القادر على امتلاك مختلف مرتكزات القوة الشاملة، بما يخولها تحدى الهيمنة الأحادية الأمريكية.
فى المقابل، يطيب لرهط من الخبراء، اعتبار أزمة أوكرانيا، التى تشهد، للمرة الأولى منذ مطلع تسعينيات القرن الماضى، حربا بالوكالة بين القوى الكبرى، إرهاصة لنهاية عصر الأحادية القطبية. فمن جانبه، اعتبر، كلاوس شواب، مؤسس منتدى دافوس، الغزو الروسى لأوكرانيا، إيذانا ببدء انهيار النظام الذى وُلِد بعد الحرب الباردة، والمرتكن إلى عولمة، تنبأ المنتدى بنهايتها، ونيوليبرالية غربية، توقع، ناعوم تشومسكى، انحسارها. ولا تستبعد دوائر استخباراتية أمريكية، أن تتحول مواجهات أوكرانيا إلى حرب استنزاف طويلة الأمد، لا تخلو من مخاطر الانزلاق نحو حرب عالمية ثالثة، قد تتدحرج إلى مأساة نووية.
وفقا لنظرية «الاستقرار بالهيمنة»، التى أصل لها، كينديلبيرجر، فى كتابه الصادر عام 1973، بعنوان: «العالم فى كساد: 1929ــ1939»، لا يبدو النظام أحادى القطبية بخير. فبينما يلتمس استقراره وبقاءه فى هيمنة قوة عظمى، لديها الإرادة والقدرة على فرض، وقيادة ذلك النظام، والحفاظ عليه، واحترام قواعده، لا يتورع القطب العالمى المهيمن، منذ عهد ترامب، عن الركض فى الاتجاه المعاكس. فما كاد يتخلى عن الاتفاقات الدولية المعنية بتقييد الانتشار النووى، كإطار العمل مع كوريا الشمالية عام 1994، والاتفاق مع إيران عام 2015، حتى أمعن فى تهميش وإذلال القوى الكبرى والمتوسطة، كما لم يتورع عن الانسحاب المربك من الشرق الأوسط. وما إن شرع، بايدن، فى تصحيح المسار، ولو بكثير بطء وتردد، حتى أطلت احتمالات عودة، ترامب، مجددا للبيت الأبيض، عبر الاستحقاق الرئاسى المزمع عام 2024.
يرصد مراقبون غربيون تراجعا فى المقومات المتنوعة للنفوذ الأمريكى عالميا. كذلك، لا يغفل آخرون اجتراء دول متوسطة، لكنها وازنة، وداعمة لاستقرار النظام الدولى، مثل: البرازيل، والهند، وإندونيسيا، ومصر، وجنوب إفريقيا، والسعودية، وتركيا؛ على إدانة السياسات الأمريكية الانتهازية. بما ينطوى عليه ذلك من جنوح للمحور الروسى ــ الصينى، الذى بات يشكل ثقلا متناميا وموازيا لذلك الأمريكى ــ الأوروبى. وقد تجلت هذه الديناميكية فى ردود أفعال تلك الدول إزاء الحرب الأوكرانية؛ إذ آثر العديد منها الحياد وتجنب الانخراط فى نظام العقوبات على موسكو. بينما شرعت دول خليجية فى بيع النفط للصين باليوان. ما أغرى موسكو وبكين للمضى فى استقطاب تلك الدول، الحذرة والمترددة، باتجاه مساعيهما لتدشين نظام عالمى متعدد الأقطاب.
حينا من الدهر، أبقى النظام النقدى الدولى، القائم على اتفاقات «بريتون وودز» عام 1947، ثم سياسة «البترو دولار» عام 1971، اقتصاد البشرية فى قبضة الهيمنة الأمريكية. لكن الغزو الروسى لأوكرانيا، وما استتبعه من عقوبات، غير مسبوقة، على موسكو، تضمنت تجميد واشنطن 630 مليار دولار من احتياطياتها النقدية الأجنبية، كان له قول آخر. حيث هرعت عديد دول إلى تقليص حصة الدولار ضمن سلة احتياطاتها النقدية ومعاملاتها التجارية. لذا، ارتأى الخبير الاقتصادى الأمريكى، مايكل هارتنيت، أن«تسليح الدولار»، و«بلقنة الأنظمة المالية العالمية»، قد ينالا من مكانة الدولار كاحتياطى نقدى عالمى. وفى أبريل الماضى، أظهرت دراسة لصندوق النقد الدولى، انكماش نصيب الدولار فى سلال الاحتياطيات النقدية للبنوك المركزية حول العالم،خلال العقدين الماضيين وحتى الربع الثانى من العام الجارى، إلى 48%. بعدما تمخض تكثيف واشنطن عقوباتها على دول وكيانات عدة، عن دفع الأخيرة، إلى الاعتصام باليوان الصينى وعملات أخرى.
فى رحم تلك المعطيات، تخلقت مقاربة أخرى لاستشراف مآلات النظام العالمى. حيث تسلط الضوء على محاولة تزحف، بحذر وعلى استحياء، من قبل روسيا والصين والمتعاطفين معهما، لإرساء دعائم نظام عالمى تعددى. فقبل أسابيع، استغل وزير الخارجية الروسى لقاء ثنائيا جمعه ونظيره الصينى، بقصد الترويج لنظام عالمى متعدد الأقطاب، نعتاه بالعادل والديمقراطى. وبعدها بأيام، أدان الرئيس الروسى، مساعى واشنطن لإجهاض ولادة نظام دولى تعددى، وعادل، وبناء. ويوم الجمعة الماضى، أكد بوتين، أمام منتدى سان بطرسبورج الاقتصادى، أن العالم لم يعد كما كان. فلقد ولى زمن الهيمنة الأمريكية، وانتهى النظام الدولى أحادى القطبية، رغم محاولات واشنطن المضنية لاستبقائه. أما الصين، فتتبنى خططا لتعميق الشراكة مع دول جنوب الهادئ، تزامنا مع ابتكار صيغة «بريكس بلس»، لتضم دولا شرق أوسطية تواقة للانعتاق من الأسر الأمريكى.
هكذا إذا، تتعدد التوقعات بشأن تداعيات الحرب الأوكرانية على مآلات النظام الدولى. فمن حيث المبدأ، يتفق خبراء كُثر على أنها تسطر نهاية حقبة امتدت لثلاثة عقود، ظنها بعضهم قطبية أحادية، أو «شبه سلام أمريكى مؤقت»، فيما حسبها آخرون، كريتشارد هاس، «لا قطبية». وبينما يترقب نفر منهم سيرورة عالمية صوب قطبية ثنائية تتقاسمها الولايات المتحدة والصين. يتحسس فريق آخر قطبية ثلاثية، بمشاركة روسية.