الغرب والديمقراطية فى الشرق الأوسط
وليد محمود عبد الناصر
آخر تحديث:
الخميس 20 يونيو 2024 - 7:05 م
بتوقيت القاهرة
لا شك أن موضوع علاقة الغرب بصفة عامة، والولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، بالمسألة الديمقراطية فى بلدان منطقة الشرق الأوسط هو من الموضوعات التى حظيت، ولا تزال تحظى، بالكثير من الاهتمام من جانب علماء وأساتذة العلوم السياسية عبر العالم، خاصة من البلدان العربية وبقية بلدان الشرق الأوسط مثل إيران وتركيا، وكذلك من البلدان الغربية، خاصة الولايات المتحدة الأمريكية، حيث إنه موضوع متجدد الدلالة والأهمية. ولذا فمن غير المستغرب أن يكون موضوع آخر كتب عالم السياسة الأمريكى، اللبنانى الأصل، الدكتور فواز جرجس، والذى صدر منذ أيام قليلة، هو تلك العلاقة الملتبسة والمليئة بالمحطات والمطبات الهامة فى علاقة الغرب بجهود جرت فى فترات سابقة لبناء الديمقراطية فى بلدان الشرق الأوسط.
ويعالج الدكتور فواز جرجس الموضوع من منظور المواقف والسياسات الغربية، خاصة الأمريكية، تجاه دولتين تنتميان إلى منطقة الشرق الأوسط فى حقبتين محددتين من التاريخ المعاصر، إحداهما دولة عربية والأخرى دولة غير عربية، وهما تحديدا مصر فى ظل حكم الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وإيران فى عهد رئيس الوزراء الراحل الدكتور محمد مصدق.
ويمكن القول إن الاختيار جاء موفقا من حيث دراسة الحالة الواردة فى الكتاب لكل من مصر وإيران لعدة أسباب، أولها أن الدولتين، مصر وإيران، دولتان مركزيتان فى منطقة الشرق الأوسط، وثانيها أن الدولتين لهما باع طويل فى علاقاتهما مع الغرب بشكل عام ومع الولايات المتحدة الأمريكية على وجه الخصوص، أما ثالث الأسباب فهى اختلاف طبيعة التدخل الغربى، وخاصة الأمريكى، بين الحالتين، ورابعها هو الاختلاف الجذرى بين حالة نظام الحكم فى مصر فى عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وحالة النظام السياسى فى إيران فى عهد رئيس الوزراء الراحل الدكتور محمد مصدق.
أما عن السبب الأول فهو أنه تاريخيا، وعلى مدار العصور، فمصر وإيران ليستا فقط دولتين محوريتين فى الشرق الأوسط وعلى الصعيد العالمى ككل، بل إن كلتيهما تنتميان إلى بلدان حضارات العالم القديم التى ساهمت بدور كبير وعلى مر عقود، بل وقرون، عديدة، فى المساهمة فى صياغة وتطوير الحضارة الإنسانية العالمية، واستفادت منهما كثيرا الحضارة الغربية الحديثة.
أما عن السبب الثانى المتعلق بتاريخية العلاقة بين كل من مصر وإيران بالغرب بشكل عام وبالولايات المتحدة الامريكية بشكل خاص، فإنه ينطلق من حقائق عمق تلك العلاقة، فالغرب أطل على مصر وجعلها بدورها تطل على الحضارة الغربية الحديثة من خلال نافذة الحملة الفرنسية على مصر فى عام 1789، ومن بعدها وبعد فترة استقرار ومشروع نهضة لم يكتمل فى عهد محمد على باشا وخلفائه، وقعت تحت الاحتلال البريطانى فى عام 1882، أما الغرب فهو الذى كان يتعامل مع الأسر المتعاقبة على حكم الإمبراطورية الإيرانية سواء فى عهد الأسرة الصفوية أو القاجارية أو البهلوية، ويوازن بين علاقاته معها وبين علاقاته مع الدولة العثمانية، كما كان الغرب الضامن لسلامة ووحدة أراضى إيران فى مواجهة أطماع دول جارة أو قريبة جغرافيا، وهو ما برز بشكل واضح خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية.
وربما كمن الاختلاف بين الحالتين فى أن الولايات المتحدة الأمريكية كانت الطرف الغربى الرئيسى المتعامل مع إيران نيابة عن الغرب منذ انتصار الثورة البلشفية فى روسيا، بينما جاءت الولايات المتحدة كطرف غربى رئيسى فى التعامل مع مصر متأخرا بعض الشىء، باعتبار مصر كانت تقع ضمن منطقة نفوذ بريطانى.
وإذا انتقلنا إلى السبب الثالث المذكور فيما سبق فهو تشابه التعامل الغربى، خاصة الأمريكى، مع الدولتين فى الحقبتين التاريخيتين المذكورتين. فالخلاصة هى أن ذلك النمط من التعامل الغربى مع ايران مصدق أو مصر عبد الناصر لم يكن ضمن أولوياته الفعلية على الأرض فى أى مرحلة المساعدة على بناء نظام ديمقراطى حقيقى فى البلدين، فالاستخلاصات المستفادة من تحليل تعامل الغرب مع الدولتين فى الحالتين أن المستهدف كان إما تحقيق مصالح غربية أو الحفاظ على المصالح الغربية القائمة فى الدولتين، ولم تكن المسألة الديمقراطية تحتل أى مكانة متقدمة فى سلم أولويات السياسة الغربية، وتحديدا الأمريكية، فى تلك الحالات، حتى ولو كان المعلن آنذاك من جانب الحكومات الغربية والإدارة الأمريكية بخلاف ذلك.
وفى حالة مصر الناصرية كان الهدف ربط مصر بشبكة الأحلاف الغربية فى المنطقة عقب أعقاب الجلاء البريطانى عن مصر طبقا لاتفاقية الجلاء فى أكتوبر 1954، وبما يدخل فى إطار المواجهة الغربية الشرقية فى زمن الحرب الباردة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، ولكن كان هناك هدف آخر وهو تأمين وجود واستمرار وأمن إسرائيل.
أما فى الحالة الإيرانية، فكان الهدف أيضا إدماج إيران فى أحلاف موالية للغرب ومناهضة للاتحاد السوفيتى السابق، القريب من إيران جغرافيا، والكتلة الاشتراكية آنذاك فى إطار الحرب الباردة، مثل الحالة المصرية، ولكن يضاف إليها فى الحالة الإيرانية هدف الحرص على تأمين السيطرة على النفط الإيرانى وضمان إمداداته للغرب وحلفائه.
وإذا انتقلنا إلى السبب الرابع لأهمية موضوع الكتاب وكيفية تناوله من جانب مؤلفه الدكتور فواز جرجس، نجد أن النظامين السياسيين لمصر ولإيران فى الفترة التى يعالج أحداثها كانا مختلفين بشكل جذرى.
وإذا بدأنا بإيران نجد أن النظام السياسى الإيرانى كان من المفترض أنه ملكية دستورية، ولكن فى واقع الأمر كان الامبراطور يسعى إلى أن يملك ويحكم معا وليس فقط يملك ولا يحكم كما هو حال الملكيات الدستورية فى أوروبا مثلاً، خاصة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية، كما كان هناك برلمان يخضع لانتخابات حرة فى أغلب معالمها ويفرز حكومة أغلبية، وهذه الحكومة هى التى كان يرأسها الدكتور محمد مصدق فى ذلك الوقت، وهو زعيم الحزب السياسى الأكبر والأهم والأكثر شعبية آنذاك فى إيران وهو حزب "الجبهة الوطنية"، وهو الذى جمع بين توجهات وطنية وديمقراطية وشبه علمانية.
وعلى الجانب الآخر، كان النظام السياسى المصرى فى الحقبة الناصرية يتصف بأنه نظام رئاسى قام بحل الأحزاب السياسية منذ عام 1953 واعتمد ما سمى بنظام «التنظيم السياسى الأوحد»، بدءا بهيئة التحرير، ومرورا بالاتحاد القومى وانتهاء بالاتحاد الاشتراكى العربى، ولا شك أن ذلك النظام السياسى تم توجيه الانتقادات له من عدة جبهات بأنه فشل فى تحقيق الهدف السادس من أهداف ثورة 23 يوليو 1952، وهو «إقامة حياة ديمقراطية سليمة».
وبالتالى، كان طبيعة الدور الغربى، خاصة الأمريكى، والتدخل، أو محاولات التدخل، تختلف ما بين حالة والأخرى.
فكان الدور الغربى، خاصة الأمريكى، فى الحالة الإيرانية فى عهد الدكتور محمد مصدق هو التدخل غير الشرعى والسرى عبر الاستخبارات الأمريكية والبنتاجون، وبدعم من وتنسيق مع بريطانيا، من خلال توظيف العلاقات المتميزة مع قيادات فى الجيش الإيرانى، سبق أن تلقت تدريبات فى بلدان غربية، بدءًا باستخدامها لممارسة ضغوط على وتخويف الدكتور مصدق وحكومته الوطنية، ومروراً بالتلويح بتمرد الجيش ضد رئيس الحكومة المنتخب وعصيان أوامره، ووصولاً إلى دفع تلك القيادات لتنظيم انقلاب عسكرى ضد حكومة الدكتور محمد مصدق الديمقراطية فى عام 1953، بقيادة الجنرال «زاهدى»، والإطاحة بتلك الحكومة.
وعلى الجانب الآخر، فإن الدور الغربى، خاصة الأمريكى، تجاه مصر، كما يوثقه الكتاب بشكل منهجى سليم، يرصد فيه أن البلدان الغربية، والإدارات الأمريكية المتعاقبة، لم تسع فى أى مرحلة خلال الحقبة الناصرية، إلى تشجيع القيادة المصرية على تبنى سياسة تؤدى إلى بناء نظام ديمقراطى ليبرالى على نسق ذلك الذى كان موجوداً قبل ثورة 23 يوليو 1952، ولكن بدون نواقص ذلك النظام، من خلال تقديم حوافز للقيادة الناصرية عبر التعاون الاقتصادى أو الدعم العسكرى أو غير ذلك من أدوات.
ويرجع المؤلف ذلك السلوك الغربى، خاصة الأمريكى، من خلال ضرب أمثلة محددة، إلى أن الرؤية الغالبة والسائدة لدى الغرب عموماً وواشنطن على وجه الخصوص، كان النظر إلى التطورات فى بلدان المنطقة، وبغض النظر عن طبيعة النظم السياسية القائمة، ليس من منظور السعى لبناء الديمقراطية حال عدم وجودها أو الحفاظ عليها حال وجودها، ولكن فقط من خلال المنظور الضيق للحرب الباردة بين المعسكرين الغربى بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية والمعسكر الشرقى بقيادة الاتحاد السوفيتى السابق وتصنيف كل الحكومات، داخل الشرق الأوسط أو خارجه، من خلال مواقف كل منها إزاء الحرب الباردة ومعسكريها.