هجرة العقول.. طموحات مشروعة وتوقعات مغلوطة
عاصم أبو حطب
آخر تحديث:
الجمعة 20 يونيو 2025 - 1:50 م
بتوقيت القاهرة
بين الحين والآخر، تطفو أزمة هجرة الكفاءات على سطح المشهد الإعلامى والاجتماعى، إما بسبب موجة استقالات جماعية مفاجئة، أو إحصاءات صادمة تكشف عن حجم هذه الأزمة؛ ولكن سرعان ما تغيب عن دائرة الضوء أمام انشغال الرأى العام بأزمات أكثر إلحاحا.
وبينما يستمر ظهور الأزمة واختفائها، يتواصل النزيف الصامت للكفاءات، وتستمر موجات الهروب الجماعى للعقول المصرية.
وبالرغم من أن التركيز الإعلامى ينصب دوما على هجرة الأطباء، ربما لكثرة أعدادهم فى قوافل المهاجرين أو لرمزية دورهم الاجتماعى، فهناك باحثون وأكاديميون يودعون مختبراتهم كل يوم محملين بخيبات التهميش، وهناك مهندسون يطوون مخططات مشروعات لطالما حلموا بتحقيقها بعد أن ضاق بهم واقع لا يمنحهم الأمل، وهناك مبدعون يشدّون الرحال إلى آفاق أرحب حيث تُحتضنُ المواهب ويُقدَّر الإبداع، وهناك حرفيون مهرة شكلوا يوما عصب صناعاتنا المحلية ينزحون تدريجيا إلى أسواق تقدر مهاراتهم وتوفر لهم الحياة الكريمة.
والنتيجة.. استنزاف بطىء يُفرّغ الوطن قطرةً قطرةً من عصارة عقوله وحيوية طاقاته، فى مشهد أشبه بمن يهدم بيته بيديه ليبنى للآخرين قصورا.
• •
فى خضم هذا الجدل الدائر حول هجرة العقول، نجد أنفسنا أمام معضلة فكرية تتطلب تفكيكا جذريا يتجاوز السرديات السطحية السائدة.
فإذا وضعنا هذه الأزمة على ميزان التحليل المنطقى، نجد كفتين متعارضتين: كفة تحمل شرعية الهجرة كحق إنسانى أصيل واستراتيجية للتأقلم، وكفة أخرى تعكس توقعات مغلوطة لمؤسسات الدولة ومفاهيمها البالية عن الولاء والانتماء.
فإذا أمعنا النظر فى المسألة من منظور العقول المهاجرة، نجد أن الهجرة ليست فعلا انتهازيا كما يصورها الخطاب الرسمى؛ بل تتأسس على حق طبيعى تقره الفطرة الإنسانية وتجسده نصوص الشرائع السماوية التى أقرت مبدأ «السعى فى مناكبها».
فالقرآن الكريم لم يكتفِ بإباحة الهجرة، بل تساءل أيضاً «أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا»، كإشارة واضحة إلى أن الهجرة قد تكون ضرورة حتمية.
وكما تبين الأدبيات الحديثة، فالهجرة تمثل استراتيجية عقلانية للتأقلم مع واقع غير عادل، واحتجاج صامت على نظام اجتماعى يتآكل تحت وطأة التفاوتات، واقتصاد هش يعجز عن استثمار كفاءاته.
وهنا تخبرنا التصورات النظرية للاقتصاد السلوكى بأن الأفراد، لا سيما أصحاب الكفاءات والمهارات العالية، لا يتصرفون كـ«مواطنين مثاليين» مأسورين بشعارات الانتماء والولاء المجرد؛ بل كأشخاص عقلانيين، يتخذون قراراتهم بناءً على منطق الموازنة بين الكلفة والمنفعة.
فعندما تصبح التكلفة اليومية للبقاء - سواء كانت على شكل معاناة معيشية، بيئة عمل طاردة، أو انعدام الحد الأدنى من التقدير والموارد - أعلى من المنافع المحتملة، فإن قرار الهجرة لا يصبح مجرد خيار مشروع، بل ضرورة عقلانية.
ولذلك؛ فإن الحديث عن «هروب العقول» هو تشويه للحقيقة، لأن العقول لا تهرب، بل تُطرد. والكفاءات لا تتخلى عن الوطن، بل يُتخلى عنها.
إنها معادلة مريرة يكشفها الواقع يوميا: فكلما ازدادت المؤسسات تخلفا، تعاظم نزيف العقول، وكلما تعمق الفساد المؤسسى، اشتدت حاجة الكفاءات إلى فضاءات أكثر عدلاً وإنصافاً.
وطالما بقيت الفجوات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية بين دول العالم فى اتساع، سيستمر الأفراد فى اتخاذ قراراتهم بناءً على منطق المنفعة الشخصية والفرص المتاحة، لا على عواطف وطنية لا تسد جوعا ولا تؤمن مستقبلا.
هذا المنطق يتعزز فى نظام دولى متعولم ومفتوح كسر احتكار الدولة الوطنية للانتماء، وفتح المجال أمام ولاءات بديلة أكثر واقعية وعملية.
فالطبيب من بعض دول العالم الثالث، مثلا، قد لا يجد صعوبة فى أن يشعر بانتماء مهنى ومعنوى عميق لمستشفى إنجليزى يقدّر جهده ويوفر له بيئة عمل عادلة، أكثر من شعوره بالولاء لمؤسسة محلية تُهمّشه وتستهلك طاقته دون مقابل.
وهذا لا يُعد خيانة، بل تجسيدا لمفهوم أكثر نضجا للمواطنة، حيث تُقاس الروابط لا بالمكان وحده، بل بجودة العلاقة التى تنشأ بين الفرد والمؤسسة، بين الأداء والتقدير، وبين العطاء والاعتراف.
• •
وفيما يتعلق بمسألة «التوقعات المغلوطة»، فمن المفارقات اللافتة ذلك التناقض الصارخ فى معادلة العلاقة بين الدولة والمواطن من حيث الأدوار والمسئوليات.
فالدولة، بكل ما تملك من مؤسسات وسلطات وموارد، تفرض على المواطن الفرد معايير لا تلتزم بها هى نفسها، فى علاقة أشبه باستعباد حديث يتخفى تحت شعارات الوطنية والانتماء.
فمن العجيب أن تطلب الدولة من الفرد - ذلك الكائن المحدود الإمكانيات - أن يتبنى منطق المؤسسى الحكومى، أى أن يعلو بمصلحة الجماعة على حساب حاجاته الأساسية، وأن يضحى بحاضره من أجل مستقبل وطنى مجهول.
ولذلك، فإن ما يبدو من رهان الدولة على نظرية الارتباط العاطفى المكانى للأفراد هو فهم قاصر للعقد الاجتماعى. فرغم أن نظرية «الارتباط بالمكان» فى علم النفس البيئى تشير إلى أن الأفراد يطورون روابط عاطفية عميقة مع الأماكن التى يعيشون فيها، ومع المجتمعات التى ينتمون إليها، ومع الرموز الثقافية والمكانية التى تشكل هويتهم؛ إلا أن هذه الروابط وحدها لا تفسر قرارات مثل الهجرة أو البقاء.
فالمشاعر لا تستطيع وحدها أن تصمد أمام واقع اقتصادى خانق، أو بيئة طاردة، أو نظام مؤسسى يعجز عن توفير الحد الأدنى من الكرامة والفرص. وهذا فى جوهره إساءة فهم لطبيعة الارتباط بالمكان، الذى هو ارتباط مرن وغير ثابت؛ قابل للتآكل والانطفاء عندما تفشل الدولة فى تأمين شروط العيش الكريم أو عندما تفقد ثقة مواطنيها، وهو كذلك علاقة مشروطة تتأثر بشدة بجودة الحياة، وشعور الأمان، وأفق المستقبل المتاح.
• •
إن هذه الازدواجية تخلق علاقة غير متوازنة، فبينما يُتوقع من الطبيب أو المهندس أو العالم أن يضع نصب عينيه «المصلحة العليا للوطن» ويتخلى عن طموحه الشخصى، نجد بعض الدول تتنصل من مسئولياتها الأساسية فى توفير الحد الأدنى من شروط العيش الكريم، فتطلب من الكفاءات أن تبقى وتصبر وتتحمل، بينما ترفض الدولة أن تطور منظومتها التعليمية أو تقدم حوافز حقيقية أو توفر بيئة عمل محفزة.
وبناءً عليه، فمطالبة الأطباء أو الباحثين وذوى الكفاءات بالتشبث العاطفى بالمكان، دون التزام مقابل بإصلاحات حقيقية، تعكس تصورًا بدائيًا لما يُفترض أن يكون عقدًا اجتماعيًا ناضجًا ومتكافئًا، يقوم على الحقوق لا على العاطفة، وعلى الشراكة لا على الخضوع.
• •
وأخيراً، فإن الهزيمة الحقيقية لأى أمة لا تكمن فى خسارة أرض أو معركة، بل فى أن يتحول أغلى ما تملك إلى سلعة تُصدَّر، وليس هناك ما هو أثمن من المورد البشرى. وقد كشفت أحداث العدوان الأخير على إيران أن الأهداف الاستراتيجية التى تم استهدافها لم تكن أعلى الابراج؛ بل كانت النخبة من الكوادر العلمية والعقول التى تشكّل المحرك الحقيقى لتقدم الأمة ونهضتها.
ولذلك، فالمدخل لكسر حلقة الهجرة القسرية للعقول لا يكون بمنع الهجرة أو اختزال الأزمة فى خطاب ديماجوجى يتهم المهاجرين بضعف الانتماء والتخلى عن المسئولية القومية؛ بل بإعادة بناء العقد الاجتماعى على أسس حديثة من الشراكة لا الوصاية، ومن التمكين لا التهميش، وبإحداث نقلة نوعية فى الفكر الحكومى بحيث يصبح الوطن فضاءً حقيقياً للإنجاز، وحيث تتحول المؤسسات من أدوات تقييد إلى منصات تحفيز.
فلا يمكن بناء مشروع وطنى مستدام على ركيزة وجدانية هشة دون إصلاح جذرى للبنية التى تدفع بالكفاءات نحو الهجرة أصلا. والأسئلة التى تظل عالقة: متى تتحول هذه القضية من مجرد مادة للجدال الإعلامى الموسمى إلى أولوية فى أجندة الإصلاح؟
وكم من الكفاءات يجب أن تهرب، وكم من الطموحات يجب أن تموت، قبل أن نعترف أن المشكلة ليست فيمن يرحلون.