استقرار الصدمة وحتمية الحراك
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
الأحد 20 يوليه 2014 - 6:10 ص
بتوقيت القاهرة
منذ ٢٥ يناير وعبر أكثر من ثلاث سنوات ونصف من موجات الصعود والهبوط، أدعى أن قليلين فقط هم من قيموا حجم التحولات الرهيبة والصراعات الكامنة والفواتير المؤجلة فى المشهد المصرى، فالأحداث المتسارعة والتغيرات الجذرية والارتدادات المفاجئة استنفدت الجميع فى التفاصيل ولم تسمح للكثيرين بتحليل أشمل وأكبر. ورغم أن قدرا من الاستقرار السياسى بدا فى الأفق عقب انتخاب الرئيس الجديد، فإن أياما قليلة فصلت بين «التنصيب» وما واكبه من أحلام رومانسية حالمة وبين قرارات رفع الدعم جزئيا عن المحروقات مصحوبا بموجة غلاء فى بعض السلع والخدمات أظهرت بوضوح أن «الاستقرار» المنشود مازال حلما بعيد المنال.
•••
قد يفهم من الفقرة السابقة أنى أحمل الرئيس الجديد وحده مسئولية عدم الاستقرار نتيجة لقراره برفع الدعم، ورغم أننى ومن حيث المبدأ أحمل أى صانع قرار مسئولية سياسية عن أى عواقب سلبية لقراراته، إلا أنى أرى أن الفترة الفائتة من عمر مصر على الأقل منذ الانتهاء من أول استحقاقات خارطة الطريق وبين قرار رفع الدعم عن المحروقات ما هى إلا استقرار مؤقت، قل عنه هو استقرار الهدنة، أو لنكن أكثر دقة، هو استقرار الصدمة، حيث تعرضت التيارات التى عبرت عن يناير على اختلاف تنويعاتها لصدمات متكررة، تارة من ترشح السيسى ووصوله إلى مقعد الرئاسة وتارة من حجم الانتهاكات والخروقات للحريات، وثالثة من حجم العنف السياسى، ورابعة من سرعة انتهاك الدستور المستفتى عليه لتوه، وهكذا. إلا أنه وبعد خفوت حدة الصدمة بدأ الجميع فى التحرك، تارة بالتعبير الرمزى وأخرى بالمظاهرات وثالثة بتغير الحلفاء القدامى والبحث عن جدد، والأهم أنه فى خضم كل ذلك كان هناك وعى جديد يتشكل وهو الذى سيقود إلى حراك يبدو حتميا، ليس بالضرورة فى شكل ثورة بالمعنى التقليدى، ولكنه حراك يدفع عجلة تغيير لن تتوقف قريبا عن التحرك لأنها ستنكأ الجراح القديمة المسكوت عنها حتى الآن. وفى النقاط القادمة يمكن رصد أسباب حتمية هذا الحراك:
• أولا: ظلت مصر تعيش لفترة طويلة انفصام بين شكل دولة صمم على طراز ما بعد الحقبة الاستعمارية، حيث الحزب الواحد والجهاز البيروقراطى الضخم والآلة الإعلامية الموجهة، والدولة الحاضنة لمواطنيها والنظام السياسى القائم على القائد الرئيس الأب، وبين سياستها الاقتصادية التحررية المعتمدة على اقتصاد السوق وحرية رأس المال، فهذا الانفصام لم يعد محتملا، فإما أن تتحرر الدولة اقتصادية وبالتالى تعيد تعريف وظائفها السياسية على نحو مغاير لوظائف ما بعد الاستعمار، أو أن تعود إلى وظائفها التقليدية وتتخلى عن اقتصاد السوق، أما معادلة «رأس مال الدولة» كحل وسط فلن تعالج ذلك الانفصام وستزيد من حدة التناقضات بين نظام يبنى شرعيته السياسية بالأساس من فكرة الدولة الأم والقائد الأب، بينما تنسحب تدريجيا من المسئوليات الاقتصادية والاجتماعية لهذه الأبوة.
• ثانيا: كما هو الحال بالنسبة لثورة يناير، فإن حلفاء نظام ٣٠ يونيو وبعد أن تخلصوا من خصمهم الإخوانى اللدود، كان عليهم مواجهة تركة كبيرة من الصراعات السياسية فيما بينهم، وتفكك حلفاء ٣٠ يونيو تدريجيا مع ضعف شرعية «الحرب على الإرهاب» كأداة لتوحيد الحلفاء تدريجيا، سيقود إلى لحظة تالية من الصدام، ويبدو لى أن الانتخابات البرلمانية ستكون أولى محطات هذا الصراع كما يتضح من أفق التحالفات الانتخابية الجارية حاليا.
• ثالثا: منذ قيام ثورة يناير وأجهزة الدولة لم تصفى حساباتها المؤجلة بعد، فقضية التوريث وتوغل الداخلية وبعض الأجهزة السيادية فى الحياة السياسية ومسئوليتها المباشرة أو غير المباشرة عن تدهور الأوضاع وقيام الثورة فى الأيام الأخيرة لمبارك هى حسابات لم تصفى بعد، كما أن التنافس على مساحات النفوذ الجديدة لا يمكن إغفالها بينما نظام جديد أخذ فى التشكل.
• رابعا: شبكات المصالح التقليدية والتى لا يمكن اعتبار انهيار الحزب الوطنى هو اختفاء لها لأسباب كثيرة أهمها أنها كانت تعتبر الحزب واجهة ومعبر للنظام وموارده ليس أكثر، انتظرت وتحملت ودعمت طويلا حتى استطاعت العبور لنظام ٣٠ يونيو وتجاوز ضربات يناير، وهنا معضلة كبيرة، فهذه الشبكات ذات التواجد والنفوذ فى الوجه البحرى والصعيد ستكون رأس الحربة ضد أى إصلاح سياسى أو اقتصادى يهدد مصالحها، ولأنه لا يمكن للنظام الأخذ فى التشكل لتوه أن يستمر طويلا بلا إصلاح فسيكون أمام خيارين كلاهما مر، فإما الإصلاح والاشتباك مع هذه الجماعات المصلحية أو السكوت عنها ودفع ضريبة عدم الإصلاح، وفى كلا الخيارين عدم استقرار للنظام الحالى.
• خامسا: اتصالا مع الملاحظة السابقة، فجهاز الدولة البيروقراطى هو الآخر أصبح يعبر عن شبكة مصالح متعددة الأطراف تدعم النظام وفى التحليل الأخير الدولة طالما أمنت الوصول إلى موارد وقيم الدولة المتعددة، هذا الجهاز كان له اليد الطولى فى إفشال الإخوان بلا أدنى شك، وهو الأداة الوحيدة التى سيعتمد عليها النظام لتنفيذ سياساته، وهنا تكمن معضلة أخرى، فإما الاستجابة لمطالب هذه الشبكة العميقة وإما الدخول فى صراعات غير محمودة العواقب ضدها، إعادة هيكلة الجهاز الإدارى للدولة مطلب أساسى للإصلاح السياسى والاقتصادى، لكنه يتعارض مع الخطوط الحمراء لهذا الجهاز نفسه، فأى خيار مر يسلكه النظام الجديد؟
• سادسا: مؤسسات الدولة القوية مثل الجيش والقضاء والداخلية حافظت على قدر كبير من مكاسبها واستقلاليتها عن النظام السياسى فى معادلة معقدة منذ أيام مبارك، وأى اقتراب من مناطق نفوذها سيواجه برد فعل قاس، فإما أن يرضخ النظام لمناطق النفوذ والخطوط الحمراء ويضطر الدخول فى معادلة مبارك القديمة وما يعنيه ذلك من دفع الثمن أجلا، أو محاولة إعادة رسم مناطق النفوذ تلك وما يتضمنه ذلك من مخاطر جمة ودفع الثمن عاجلا.
• سابعا: لن يستطيع النظام السياسى الجديد (كما لم يستطيع أى نظام قديم)، أن يفصل مصر عن محيطها الإقليمى والدولى، ولما كان هذا المحيط دائما مصدر ضغوط سياسية واقتصادية وأمنية على مصر، فإن التغير السريع فى المحيط العربى والشرق أوسطى سيضع دوما قيود على حركة النظام فى الداخل ولن يسمح له بتنفيذ أجندته الداخلية ولا الخارجية بحرية.
• ثامنا: عبر ثلاث سنوات ونصف ربما فشلت الثورة بشكل مؤقت، لكنها ورغم كل ذلك خلقت وعيا سياسيا عميقا لدى فئات الشعب المتنوعة، هذا الوعى من الأرجح أن يكون أقدر عن التعبير عن مطالبه وتنظيم صفوفه وتنويع وسائل ضغطه على النظام بأشكال متنوعة، لن يطالب بالضرورة بالديموقراطية لكنه سيرفض القمع! لن يحارب من أجل تعدد الأحزاب، لكنه سيرفض الاستئثار بالسلطة! لن يقدم السياسى على الاقتصادى لكنه سيضع دوما نصب عينه مصادر أكل عيشه وسيرد بحسم على من يقترب منها أو ينافسه فيها!
• وأخيرا: ربما انهارت تيارت الإسلام السياسى مؤقتا، لكن الأفكار موجودة، والمظالم حاضرة، وتضييق النظام على حريات العمل العام مع بعض البطش الذى طال هذا التيار أو ذاك حتى من خارج التيارات الإسلامية لن يوفر للنظام هدنة سياسية طويلة، ولكنها ستكون هدنة مؤقتة وقد تعود مراوغات قديمة واستراتيجيات جديدة لمواجهة النظام مجددا بشكل ربما أسرع وأعنف من قدرتنا على التوقع.
•••
هذا النظام السياسى الذى يتشكل لتوه هو فاعل، ولكنه أيضا مفعولا به، فهو إن شاء أو أبى سيتحمل تكلفة فواتير صراعات كثيرة مؤجلة على مستويات عديدة فى الدولة المصرية منذ إنشائها، وقد جاء وقت تحصيلها، ومع إصرار النظام فيما يبدو على المعالجات الأمنية والضربات القاسية فحسب، يبدو أننا نخرج رويدا من استقرار الصدمة متجهين تدريجيا نحو حراك حتمى وطويل ستتغير على أثرة شكل الدولة المصرية وربما الشرق الأوسط بأسره.