يراهنـون على الشعوب
جميل مطر
آخر تحديث:
الأربعاء 20 يوليه 2016 - 9:55 م
بتوقيت القاهرة
لم تكد أوروبا تفيق من صدمة البريكسيت، أى استفتاء الشعب البريطانى على خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبى إلا لتجد نفسها أمام تطور خطير آخر فى دولة تسعى للانضمام إلى الاتحاد، ففى تركيا خرج الشعب إلى الشارع ليتدخل فى صنع أحداث قد تغير شكل تركيا ومستقبلها. دور الشعوب فى تقرير مصيرها إلى الأحسن أو إلى الأسوأ ليس جديدا على الفكر السياسى الأوروبى بل وعلى العقل الأوروبى بصفة عامة. الجديد هو أن الطبقة السياسية فى أوروبا التى بذلت جهودا خارقة على امتداد ثلاثة أرباع قرون لتحويل الحركة السياسية للشعوب من مساراتها التلقائية والعشوائية لتتدفق بحساب وهدوء فى قنوات دستورية وقانونية، أى ضمن شبكة مؤسسات، هى الآن تشاهد وبمنتهى القلق شعوبا فى أوروبا وفى جوارها وفى العالم بأسره تعود إلى تفضيل المسارات التلقائية على مسارات تقررها النخب الحاكمة.
لا جدال فى أن هذه العودة من جانب الشعوب للتدخل فى الحياة السياسية أصبحت تشكل العنصر الأساسى فى خرائط الحكم وخطط الحكام فى عديد الدول وبخاصة فى العالم الغربى الذى هزته إلى الأعماق موجة ثورات الربيع العربى. كان التصور فى بدايته يقتصر على أنه من الممكن ألا تنتقل التداعيات إلى خارج الشرق الأوسط، وأن العالم سوف يشهد فى أقرب فرصة طبقة سياسية جديدة تتولى الحكم فى دول الشرق الأوسط وتتحمل مسئولية إقناع الشعوب بفائدة القنوات الجديدة التى ستشق لها لتسير فيها وتتحرك بحرية وتحقق أحلامها. لم يقدِّر المحللون بالقدر المناسب ارتباط هذه الثورات بظاهرة أشد اتساعا فى العالم، وهى ظاهرة تدهور ثقة قطاعات واسعة من الناس فى النخب التى تحكمها وربما فى الطبقة السياسية التى تفرز هؤلاء الحكام.
●●●
نحن، أو كثيرون بيننا، أصبحوا الآن على ثقة من أن التصويت بنعم على الخروج ببريطانيا من العلاقة الوثيقة بالاتحاد الأوروبى وعلى علاقة أقل ترابطا وقيودا على حرية القرار البريطانى هو فى أحد أهم جوانبه إعلان سخط على الجماعة البيروقراطية الحاكمة فى المفوضية فى بروكسل، وفى الوقت نفسه إعلان غضب على مجمل إنجازات وسلوكيات الطبقة السياسية فى إنجلترا. أصبحنا أيضا على ثقة من أن صعود كل من دونالد ترامب وبيرنى ساندرز فى حملة انتخابات الرئاسة الأمريكية لم يكن مجرد ظاهرة عابرة فى الحياة السياسية الأمريكية. هذا الصعود، أراه ويراه آخرون، دليلا ملموسا على أن أحدا اكتشف أن الشعب الأمريكى، فى مجمله أو فى أغلبه، لم يعد يثق فى الطبقة السياسية الأمريكية كعهده بها، وراح يستغل اكتشافه هذا ليعبئ جانبا من هذا الشعب الغاضب وراءه. الفارق بين ترامب وساندرز وكلاهما اكتشف حالة الغضب واستثمرها هو فى أن ترامب يسعى فعلا لتدمير هذه الطبقة بينما يعتقد ساندرز أنه يستطيع بدعم هذا الغضب الشعبى إصلاح الطبقة السياسية وإجبارها أو إقناعها إدخال التغييرات الاجتماعية والاقتصادية التى ينادى بها ساندرز ويطالب بها الشعب.
أمثلة عديدة على تصاعد حركة الشعوب وتصاعد المد النيولبرالى ضدها نراهما فى أمريكا اللاتينية، القارة الأبرز فى سجل التاريخ عن قوة الشعوب الغاضبة ودورها فى إحداث التغيير أو عرقلته. الأمثلة الأهم فى الحال الراهنة هى تلك التى تزدحم بها الحركة السياسية فى القارة الأوروبية. رأينا مثالا بارزا خلال أزمة اليونان مع منطقة اليورو ورأينا مثالا آخر فى صعود حركة «نستطيع.. بوديموس» فى إسبانيا، والحركات المتشبثة بالقومية فى ألمانيا وبريطانيا وإيطاليا. رأيناها فى الهند وعلى أكتافها وصل ناريندرا مودى بحزبه المتعصب دينيا وطبقيا إلى السلطة فى أكبر ديمقراطية فى العالم المعاصر بل فى التاريخ السياسى كله. أذكر كيف كان يحشى خطبه الانتخابية بعبارات تبجل الثقافة الهندوسية وتراث الهند واستقلال الإرادة الوطنية. هذه بالضبط كانت روح الخطاب السياسى لفلاديمير بوتين، إذ جاء إلى الحكم فى ظل الغضب الشعبى الشديد على تدهور مكانة روسيا وهدر ثرواتها على الطبقة التى تولت الحكم فى أعقاب سقوط النظام الشيوعى، جاء وفى نيته استثمار هذا الغضب فى إقامة علاقة شخصية تربط بينه وبين الشعب، والعمل على مأسسة هذه العلاقة بعيدا قدر المستطاع عن مؤسسات الطبقة السياسية.
●●●
فى كل مكان تقريبا يتصاعد الغضب ضد الطبقة السياسية. كانت ثورات الربيع نموذجا وحافزا، ولا تزال. الشعوب التى خرجت فى مطلع الثورات تعلن بوضوح أنها غاضبة على طبقة سياسية أهانت كرامتها وقيدت حرياتها وزيفت إراداتها ولم تكن عادلة اجتماعيا. فى مصر خرج الشعب مرتين، مرة فى يناير 2011 ومرة فى يونيو 2013 وفى المرتين كان غاضبا، وفى المرتين أحدث تغييرا، ولكنه لم يفلح فى تغيير الطبقة السياسية التى بأخطائها وقصورها تسببت فى ثورته، بل لعله يدرك الآن حقيقة عودتها بسلطاتها شبه كاملة وبأفكارها يقودها شعار الاستقرار، الشعار الخادع الموروث مع غيره عن مرحلة ما قبل الثورة.
سارت تونس على الدرب نفسه مع تغيرات طفيفة. هناك، وفى غياب العنصر العسكرى، قاد مسيرة العودة اتحاد الشغل بما له من قوة وجاذبية لدى الشعب الغاضب لا تعادلهما قوة سياسية أخرى. وفى النهاية تعثرت العودة مؤذنة، لا قدر الله، بتطورات معقدة وغير سلمية الطابع بين أطراف النخبة السياسية العائدة للحكم.
لا يمكن، ولا يصح، إغفال أهمية التطور المثير الذى وقع فى المملكة العربية السعودية، هناك وجد من ينتبه لخطورة تمدد الغضب العارم فى أنحاء الشرق الأوسط على الطبقة السياسية إلى المملكة، فسارع إلى تنفيذ ما يمكن أن يرقى إلى مستوى الثورة على هياكل وأعراف طبقة إدارية وسياسية ودينية هيمنت، وككثير غيرها من الطبقات السياسية فى المنطقة، بدأت تحصد غضبا بين فئات من الشعب. أنا لن أحكم هنا على سياسات النظام الجديد الحاكم فعليا فى واحدة من أهم دول الشرق الأوسط، ولكنى بالتأكيد لا يمكن أن أغفل أو أقلل من القيمة التاريخية للتغيرات الكبيرة الواقعة هناك، وبتحديد أدق التغيرات التى تمس الطبقة السياسية والبيروقراطية السعودية وعلاقاتها بالشعب.
تركيا، مثل غيرها من دول غير قليلة فى المنطقة، وجدت نفسها على امتداد العامين الأخيرين نهبا لصراعات حقيقية وحادة، صراعات على السلطة وصراعات قومية وثورة اجتماعية تدعو للمساواة، عكست هذه الصراعات نفسها على أداء النخبة الحاكمة باسم الدين وحفزت التيار المتصلب أو الأكثر تدينا فى تركيا التعبير على غضبه على أردوغان وحكومته. كان لابد والحال يزداد تدهورا أن يتخذ أردوغان قرارا يسبق به قرار التيار الدينى المتطرف إثارة قواعده الشعبية فى ثورة عارمة بقيادة القوات المسلحة ضد حكومة أردوغان. يبدو أن القرارين تزامنا وكانت الغلبة لمن أفلح وكان أسرع من الثانى فى حشد «الشعب» إلى صفه. والآن يبدأ أردوغان وبكل العزم والقوة تصفية طبقة سياسية وإقامة غيرها من صنعه مكانها، إن استطاع إلى ذلك سبيلا.