«سلطان» توفيق الحكيم «الحائر»!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 20 يوليه 2018 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
ما زلت على قناعتى بأننا فى حاجة ملحة دائما إلى ظهور طبعات جديدة من أعمال روادنا وكتابنا ومبدعينا الكبار منذ النصف الثانى للقرن التاسع عشر وحتى وقتنا الحاضر. ما زلت على يقينى ومطالبتى بضرورة تجديد التعريف بهؤلاء الكبار، والإلحاح على حضورهم بالكتابة عنهم وإعادة طبع أعمالهم والتنويه المتصل بإنجازهم، وعدم إغفال أن هناك موجات من أجيال جديدة دائما يبحثون عمن يدلهم عن مثل هؤلاء، وأن يشير إلى مفاتيح أولى للتعرف على كتاباتهم، ويقترح عليهم ما يقرأونه من أعمالهم، ويحثهم على مطالعة ودراسة أبرز إنتاجهم، وبعد ذلك فلْنلم عليهم كيفما شئنا!.
ظهور طبعة جديدة من مسرحيته الخالدة «السلطان الحائر» عن دار الشروق، مناسبة تستحق أن نتوقف قليلا عند أهم عمل، ربما، كتبه توفيق الحكيم على كثرة ما كتب من روائع وأعمال؛ مسرحيات وروايات وقصص قصيرة.
وهب الحكيم (تحل ذكرى رحيله الحادية والثلاثين الأسبوع المقبل) حياته لمشروعه الأكبر؛ تأصيل الأنواع الأدبية الحديثة فى تربة الثقافة العربية الحديثة، وبالأخص فى فنى المسرح والرواية؛ بالإضافة إلى مساهماته المعتبرة فى فن المقال والفكر الأدبى والحياة الثقافية فى أوجهها المتعددة، راد فن المسرح بمسرحيته «أهل الكهف»، وعد بين مؤسسى الرواية العربية الحديثة برائعته «عودة الروح»، وكان الحكيم وهو يؤسس للإبداع العربى مسرحا راسخا ورواية متميزة، يصوغ فنا يجمع ما بين شمول الرؤية وعمقها، وتنوع المعالجة وتعدد مجالاتها، نافذا من المحلى إلى الإنسانى، واصلا الماضى بالحاضر، والشرق بالغرب، جامعا بين التجريد الفلسفى والتجسيد الواقعى، مازجا الملاحظة العميقة بالسخرية النافذة، متنقلا بين المأساة والملهاة، متوسطا بين العامية والفصحى، وباحثا عن «لغة ثالثة» تستوعب التناقض بينهما وتجاوزه.
وأما مسرحيته الفاتنة البديعة «السلطان الحائر» (نشرت للمرة الأولى عام 1960) فهى دون مبالغة أحب أعمال توفيق الحكيم إلى قلبى، قرأتها وأنا فى الجامعة، قرأتها كثيرا، انبهرت بالقدرة الرهيبة على صياغة الحوار وخلق الصراع وإدارته ــ من خلال الحوار ــ والوصول به إلى ذروته، ثم الوصول إلى نقطة نهاية معقولة ومنطقية.
وبالمناسبة، هى فى نظر أغلب النقاد الكبار المعتبرين، أفضل أعمال توفيق الحكيم الدرامية على الإطلاق؛ لأنها ورغم احتفاظها بخصائص المسرح الذهنى كاملة لديه فإنها تقدم حدثا دراميا يتصف بالتماسك والديناميكية والتطور، مما وضعها على رأس أفضل ما قدمه المسرح المصرى، بل العربى، الحديث.
هذا بالإضافة إلى أن المسرحية تقدم نموذجا مبكرا ورائعا لمسرح الإسقاط السياسى، من خلال تعبيرها عن صراعات السلطة والتحايل على القانون، تحكى قصة سلطان محبوب من شعبه يتعرض للاختيار بين أن ينهى حياة كل من يقول إنه عبد، بالسيف أو أن يخضع للقانون ويعرض للبيع ثم يعتق من العبودية ليصبح ملكا شرعيا.
تاريخيا، تعود أحداث المسرحية إلى العصر المملوكى فى مصر حين يكتشف السلطان أن أمر عتقه مشكوك فيه، ومن ثم، فإن حكمه لمصر غير شرعى. وتجىء فتوى القاضى بضرورة بيع السلطان فى مزاد علنى، ثم قيام من يشتريه بعتقه بعد ذلك مما يجعله إنسانا حرا وتضفى الشرعية على حكمه. ويقاوم السلطان إغراء استخدام القوة أو السيف ويقبل حكم القانون. وينتهى الأمر بالسلطان عبدا تملكه غانية معروفة تشترط أن تحتفظ به لنفسها لليلة كاملة، وتتعهد بتوقيع صك العتق عند سماع صوت المؤذن لصلاة الفجر.
وحينما يقوم المؤذن، استجابة لضغوط القاضى والوزير، بالأذان قبل موعد صلاة الفجر بفترة طويلة، يرفض السلطان ذلك التلاعب الواضح بالقانون، ويظل تحت تصرف الغانية حتى الموعد القانونى الذى نص عليه عقد الشراء.. فماذا دار خلال هذه الليلة بين السلطان والغانية؟ هذا ما يكشف عنه الحوار الرائع الذى كتبه الحكيم فى أفضل وأمتع ما كتب من مسرحيات.
من بين كل ما قرأته فى نقد وتحليل المسرحية استوقفنى تحليلان لا أنساهما؛ الأول ما كتبه المرحوم عبدالمنعم تليمة ــعليه رحمة اللهــ وهو قراءة فذة وغير مسبوقة، درس عملى فى تفكيك عناصر العمل ورده إلى أصوله والكشف عن رؤية الفنان الفكرية والفلسفية وكيفيات تجسيدها جماليا.
أما القراءة الثانية فللناقد والأكاديمى د.سامى سليمان فى كتابه «مدخل إلى دراسة النص الأدبى المعاصر»، وهى بحق قراءة متميزة وكاشفة عن جماليات المسرحية وأبعادها الفكرية والسياسية.
ودائما تظل الأعمال الإبداعية الكبرى غنية ومنتجة لعشرات القراءات والتفسيرات والتأويلات، مهما مر عليها من سنين وعهود.