غني حرب
محمود قاسم
آخر تحديث:
الجمعة 20 يوليه 2018 - 9:35 م
بتوقيت القاهرة
هذا فيلم تم انتاجه وعرضه منذ سبعين سنة، ولا يكاد يعرفه أحد رغم أنه متاح الآن للمشاهدة على اليوتيوب، وهو فيلم «غنى حرب» إخراج نيازى مصطفى، تأتى أهميته ان وقائعه تكاد تحدث الآن من حولنا بالمصطلحات نفسها، فهو فيلم عن المال، والارتفاع الجنونى للأسعار، وعلاقة الجنيه المصرى بالدولار فى السوق المصرية، وكان يومها حسبما جاء على لسان الجزار حسنين يساوى خمسة دولارات بما يعنى أن الحياة فى مصر قد قلت قيمتها الاقتصادية مائة مرة. إنه فيلم عن الثروة المجنونة، تدور احداثه من بين عام 1939، حتى عام 1945.
هو واحد من أفلام عن تأثير المال فى الطبقات الفقيرة الجاهلة، الذين لا يتمتعون بأى ثقافة، لديهم الدأب الشديد للتعامل مع الثروات، ففى هذه الفترة كان بنك مصر فى بداية عهده، والسينما تحاول التركيز على أن الفوارق الاجتماعية لا تصنع الحواجز بين العشاق، وكانت هناك افلام تحذر الأفراد من الثروات المفاجئة التى تنزل على الفقراء، بمعنى اياك أن تقترب من المال الكثير اذا جاءك، ومن هذه افلام «لو كنت غنى» إخراج بركات عام 1942، و«المظاهر» إخراج كمال سليم 1944، و«سفير جهنم» ليوسف وهبى» 1945، هى أفلام تؤكد أن حلم الثراء قد يتحقق فى أى وقت.
تأتى أهمية الفيلم، أنه ملىء بالحديث عن الأرقام، والمال، والأشخاص فيه خاصة المعلم حسنين لا يكفون فى الحديث عن الارقام بارتفاعاتها المستمرة.
غنى الحرب، هو الرجل الذى استفاد بقوة من قيام الحرب العالمية الثانية فانتقلت الجيوش بين الدول حتى وصلت إلى مصر، هذه القوات كانت فى حاجة ماسة إلى السلع الغذائية، فاتجه التجار إلى توريد ما لديهم إلى الجيوش الاجنبية، وارتفعت الاسعار بشكل جنونى على المواطن العادى، وفى الفيلم رأينا كيف ارتفعت الأسعار إلى مائة ضعف فى كل شىء، وليس فقط فى السلع الغذائية حتى وصل إلى هدايا للعاهرات والراقصات، كما أن الثراء لحق بالفتاة الفقيرة نكلة(هاجر حمدى) التى صارت راقصة وانتقلت إلى شريحة اجتماعية أعلى، مثلما حدث للجزار حسنين (بشارة واكيم)، الذى تنامت أمواله، فصار يفضل أن يناديه الآخرون باللورد، والمعلم حسنين الجزار هو رجل شعبى مستور، ينعم بحياة اجتماعية مستقرة حيث يتنافس الجميع على خدمته واسعاده، حياته كلها أرقام، يلتقط خبر قيام الحرب كى يأخذ مصاغ امرأته ويعمل مؤسسة لتوريد الأغذية، وفى المشاهد الأولى فإن الجزار يردد أنك لو امتلكت مال قارون بدون عائلة سعيدة فلا فائدة، وفى حياته العامة فإن كل شىء مرتبط بالرقم، فالجزار حين يغازل الفتاة نكلة وهى فقيرة يقول: «ورقة بألف جنيه سموها نكلة» بمعنى انها تساوى الكثير كأنثى، وعندما تتغير الأمور فإن نكلة صارت راقصة تأتيها هدايا العشاق الميسورين يملأون بيتها بالهدايا.
أى أن الارقام هى التى تكلمت فى الحالتين، العوز والثراء، وعن طريق التنبؤ بالتضخم القادم والغلاء يعترف الفيلم ان الأمر سوف ينطبق على رغيف العيش حيث إن حاجة الجنود إلى الخبز سترفع سعره بجنون.
والفيلم يقترب بشكل مباشر من السياسة حين يطلق حسنين على جزارته اسم «الجزارة الديمقراطية» وفى السيناريو الذى كتبه ابوالسعود الابيارى، فإن الجزار كلما ازداد ثراء ازداد شحا فى العطاء للفقراء، واتسع فى المنح للراقصات، وسرعان ما تظهر ملامح الثروة على الاسرة التى اغتنت، سواء من حيث الملابس أو المسكن فينتقلون إلى القصر الفخم المعادل للكومباوند فى ايامنا، ويبدو الجزار بالغ الجشع وهو يعبر عن رؤيته الجديدة: «لازم نرفع سعر اللحمة لحسن الحرب تخلص فجأة»، لكن بدلا من الوفرة سيكون هناك عوز واقتراض، وجرائم جنسية، وسجن، ثم إفاقة، وهنا سوف تختفى الارقام تماما والظاهرة تنتهى دون أن نعرف كيف صارت الأسعار والأجور بعد الحرب، وبدا كأن السيناريو تتبع رحلة الصعود وتعامل بالقشور مع رحلة السقوط، فكل المشكلات سوف يتم حلها، وستظل الاسرة على قدر من الثراء فالشريك القديم الذى صار غنيا يأتى للزواج من الابنة قطايف، والطبيب الذى صار مقتدرا يغفر الزلة لحبيبته قشطة التى رفضته ويقبل الزواج منها، ويعترف الأب بعد خروجه من السجن بما ارتكبه من خطأ، لكن الفيلم لم يعد ابطاله قط إلى الحالة التى كانوا عليها قبل أن تبدأ الحرب.