فى مهرجان تورونتو.. رواية واحدة لا تصنع عدالة

خالد محمود
خالد محمود

آخر تحديث: الأربعاء 20 أغسطس 2025 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

أثار قرار إدارة مهرجان تورونتو السينمائى الدولى إعادة إدراج الفيلم الوثائقى «الطريق بيننا: الإنقاذ النهائى» فى جدول عروضه بعد أيام من سحبه، موجة غضب وانتقادات حادة فى الأوساط الثقافية الفلسطينية، واتهامات للمهرجان بالترويج لرواية أحادية تُبرّر الاحتلال، وتُهمّش معاناة الفلسطينيين.
الفيلم، من إخراج الكندى بارى إيفريتش، ويُوثّق قصة اللواء الإسرائيلى المتقاعد نوعام تيفون؛ الذى هبّ لإنقاذ أفراد عائلته خلال هجوم 7 أكتوبر 2023، فى كيبوتس ناحال عوز. ويُصوّر العمل «بطولة فردية» وسط مشاهد دمار ومجازر، مستخدمًا لقطات التُقطت من قبل المهاجمين أنفسهم.
فى بادئ الأمر، رحّبت إدارة مهرجان تورونتو بالفيلم كإضافة مهمّة لبرنامجه الفنى؛ لكن فى 13 أغسطس، أعلنت سحب الفيلم من قائمة العروض، مشيرة إلى «مشكلات قانونية» تتعلق باستخدام لقطات مصوّرة من قبل عناصر حماس، وهو ما اعتُبر من وجهة نظر قانونية «محتوى محميًا بحقوق ملكية فكرية».
وأوضحت إدارة المهرجان أنها اتخذت القرار بدافع الحذر القانونى والأمنى، لتجنب احتمالات احتجاجات أو ردود أفعال خارجة عن السيطرة، نظرًا لحساسية الموضوع.
القرار أثار موجة انتقادات واسعة؛ ووُصف من قبل البعض بأنه خضوع للرقابة السياسية، خاصة من مؤسسات ومنظمات ترى فى الفيلم توثيقًا ضروريًا لهجوم غير مسبوق، لا بد من كشف تفاصيله أمام الرأى العام.
فى اليوم التالى، وبعد احتجاجات من سياسيين، ومنظمات يهودية وكندية، تراجعت إدارة المهرجان عن قرارها، وأعلنت، فى بيان رسمى، «التوصل لاتفاق مع صنّاع الفيلم»، يضمن معالجة الجوانب القانونية والأمنية، مع التأكيد على التزام المهرجان بحرية التعبير ومساحة العرض المتعدد.
الرئيس التنفيذى للمهرجان، كاميرون بيلى، عبّر عن أسفه لسوء الفهم الذى حدث، مؤكدًا أن المهرجان لا يُمارس الرقابة، بل يسعى للحفاظ على مساحة نقاش فنى حُر ومتوازن.
ورغم ما يُقدّمه الفيلم من دراما إنسانية - بحسب وصف صناعه - فإن فلسطينيين أكدوا أنه تلميع انتقائى لرواية تُخفى مجازر أخرى وقعت فى اليوم نفسه، أى إنه تعمد إخفاء جزء من الدراما اللا إنسانية، معتبرين أن الفيلم يغضّ الطرف عن سياق أوسع من الاحتلال والانتهاكات، التى تبعت الهجوم وأدت إلى مجازر بحق المدنيين فى غزة.
صانعة الأفلام الفلسطينية - الكندية سيرين حسنى عبّرت عن رفضها لقرار إعادة العرض، ووصفت المهرجان بأنه "يوظف لغة الانفتاح لتبرير الرواية الإسرائيلية"؛ وقالت فى منشور عبر إنستجرام:"كيف يمكن لمنصة تقول إنها تحترم العدالة الثقافية أن تعرض فيلمًا بتمويل حكومى إسرائيلى، بينما يواصل الاحتلال قصف غزة؟".
واعتبرت أن المهرجان يكرّس "ازدواجية معايير"، حيث يتم تهميش أو منع عروض أفلام فلسطينية توثق المجازر والانتهاكات الإسرائيلية، بينما يتم تسليط الضوء على فيلم يعكس الجانب الإسرائيلى فقط من أحداث 7 أكتوبر.. وتساءلت.. لو كان الفيلم عن غزة.. هل كان سيُعرض؟
واقع المشهد يدين بحق مهرجان تورنتو، فردود الفعل الفلسطينية لم تقتصر على هذا الفيلم تحديدًا، بل فتحت نقاشًا أوسع: هل كانت ستُعامل الأفلام التى توثق المجازر الإسرائيلية بنفس الانفتاح؟
التجربة تُشير إلى العكس. فقد شهدت السنوات الأخيرة إلغاء عروض لأفلام فلسطينية داخل كندا والولايات المتحدة بحجج أمنية أو تحت ضغط لوبيات سياسية، كما أُلغيت عروض لأفلام مثل «من المسافة صفر» و«طنطورة»، التى تناولت التهجير والقتل الجماعى فى فلسطين، فى أكثر من مناسبة دون تفسير واضح.
ورغم التحديات، يبرز عدد من الأعمال الفلسطينية الوثائقية بعد 7 أكتوبر، توثّق بالصوت والصورة آثار القصف، والحصار، والمجازر فى غزة. من أبرزها مجموعة الأفلام القصيرة من المسافة صفر «From Ground Zero» الذى يضم 22 مخرجًا شابًا من داخل غزة، وحظى بدعم مخرجين عالميين مثل مايكل مور، وتغطية إيجابية من منصات فنية دولية.
هذه الأعمال تحاول أن تصنع توازنًا سرديًا فى وجه سطوة الرواية السائدة، وتُظهر جانبًا مغيبًا من المعاناة اليومية للفلسطينيين.
قرار مهرجان تورونتو بإعادة عرض «الطريق بيننا»، رغم كل الضغوط، يُعيد طرح سؤال قديم جديد: هل الفن محايد؟ وهل المهرجانات السينمائية منصات حقيقية لتعدد الروايات أم ساحات تصفية سياسية ناعمة؟
فى بيئة ثقافية تدّعى الدفاع عن حرية التعبير، يُطالب الفنانون الفلسطينيون اليوم بأبسط الحقوق: أن يُسمح لأصواتهم بأن تُروى دون تشويه أو مصادرة. وحتى يحدث ذلك، ستبقى السينما ساحة صراع باردة، يتجدد فيها الاشتباك كلما اقتربت الصورة من الحقيقة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved