تدهور بيئة صنع القرارات السياسية المتعلقة بمستقبل الشرق الأوسط

جميل مطر
جميل مطر

آخر تحديث: الأربعاء 20 أغسطس 2025 - 8:10 م بتوقيت القاهرة

أظن، وبعض الظن فى أيامنا الراهنة اجتهاد مستحق وضرورى، أظن أن التاريخ، حسبما وصل منه إلينا وحسب بعض منه نعيشه بأشخاصنا أو بأوهامنا وأحلامنا، ربما لم يشهد أو يعايش بيئة متدهورة محيطة بمواقع صنع السياسات بالشرق الأوسط كالبيئة الراهنة.
• • •
تأكد لنا بطول المراقبة أن تحولات كبرى تنتظر الشرق الأوسط. تحول من هذه التحولات أعلن فشله قبل أن يتجسد حقيقة واقعة. أقصد الفشل الذى أصاب مشروع قيام منظومة إقليمية عربية بعقيدة قومية جامعة وشاملة. تقلص المشروع متدرجًا لأسباب داخلية يطول شرحها وكذلك بسبب حصار فرضته بيئة معادية له فى أسوأ الأحوال أو بيئة متمردة فى أحوالها العادية. ازدادت هذه البيئة تعقيدًا حين تصادم وبعنف كبير جانب من عقيدة المشروع «العروبى»، وأقصد جانب «المقاومة»، مع تحالف شيطانى الطابع من قوى الغرب المنسحبة من الإقليم وقوى الصهيونية المتقدمة بإصرار تدعمه قلاع المال المنتشرة فى أوروبا وأمريكا وتغلفه الأسطورة أو«الحدوتة».
• • •
كنت، بين آخرين، شاهدًا لأكثر من مرة على هذه الاصطدامات. عشت أحفظ عن ظهر قلب مدونة أيام نهوض الأمة العربية وعشت أيامًا أخرى مع المقاومين، وعشت أياما من نوع ثالث أراقب توقف النهوض ثم بدء انحداره ثم تقلصه وحصره داخل أسوار منيعة. بمعنى آخر عشت دورة كاملة من دورات نهوض الأمم وانحدارها، نهوض وانحدار فى جيل واحد. أعتز حقيقة بنظرات تبجيل وتقدير أحاطتنى بها خلال أيام المقاومة والنهوض شعوب عظيمة عشت بينها مثل الهند والصين وتشيلى والأرجنتين، لم ألمح النظرات نفسها عندما عدت لزيارتها بعد أقل من عشرين سنة. تصادفت العودة مع نهوض عربى متوقف ومقاومة قومية بالسلاح أو بغيره منعدمة أو غير لائقة وخلافات عربية أعمق وملامح انحدار ملموس.
قال قائل من أهلنا: «لعل تجربة نهوضنا كانت أثقل من قدرتنا على تجديده وتطويره أو حتى على مجرد حمله». حسب صاحب هذا الرأى كانت تجربة مكلفة، وفى رأى كثيرين باهظة التكلفة. المدهش أن هذه الحجة نفسها تهيمن الآن على بيئة صنع القرار السياسى فى كل ساحة عربية أو ساحة مجاورة للعرب. صرنا نسمعها همسا وعلنا وفى كل المجالس، "لا للمقاومة فتيار الانحدار جارف ولمصلحتنا يجب الابتعاد عن كل مجاريه وروافده وأهمها هذا الرافد، رافد المقاومة". قال آخر منهم أو منا "خذوا حذركم، فالمقاوم بلسانه أو قلمه أو حنجرته مصيره أن يطالبكم بسلاح خاص به بحجة إن العدو يطارده ليقتله، ولا أحد يتقدم لحمايته أو الدفاع عنه، فإن تقدمتم أو ترددتم فمصيركم من مصيره الذى هو مصير أهل غزة وكل فلسطين إن استمرت تقاوم".
• • •
كثير من هذا يثير غيوما كحيلة حول صناعة وصناع القرار السياسى فى عالمنا الجنوبى. أسمعه كل يوم على لسان عربى مقاوم أو فى شوق ليوم مقاومة. أمريكا ما تزال صاحبة الست وتسعين ورقة من أوراق القرار السياسى العربى وربما زادت النسبة بوجود شخصية فريدة أو نادرة فى سجلات تاريخ قيادات الإمبراطوريات الغربية.
الشخصية هى للسيد دونالد ترامب. الرجل الذى جعل العلاقات الدولية لعبة شد حبل بين عملاق من ناحية وصغار أبرياء أو ضعاف بنية أو رجال انهكتهم المطاردة والتجويع على الناحية الأخرى. الرجل الذى جعل العالم ساحة كساحات بيع العبيد لمن يدفع أكثر ولمن على وفاق مع «عتاولة» المال الصهيونى وسماسرة الصفقات العظمى. الرجل أو الزعيم الذى تفوق على غيره من قادة الولايات المتحدة فى سباق التنكر للقيم الليبرالية والديمقراطية وتقاليد احترام الحقوق والحريات. تجاسر الرجل فدعا إلى إعادة أمريكا إلى عظمتها ولو على حساب صحة مواطنيها وعدالة مطالبهم الاجتماعية والسياسية. سمعت أن مسئولًا أوروبيًا قال: «وهل ننتظر من هذا الرجل احترام شعوب حلفائه الأوروبيين أو نطمئن إلى قيادته لوقف استمرار انحدار الغرب».
• • •
كثيرون وجدوا أعذارًا لزعماء فى عالم الجنوب تخلوا عن عقائد ورثوها عندما اكتشفوا أن التزامها غير مفيد وقد يضر. هناك من تخلوا عن عدم الانحياز وآخرون عن «الأفريقانية»، وغيرهم أداروا ظهورهم لعقيدة التعايش السلمى أو المبادئ الخمسة المؤسسة لروح باندونج، ونسمع عن زعماء عرب فقدوا الثقة فى العروبة وبخاصة بعد أن تخاصموا عند تعريفها ورسم حدودها وحساب تكلفتها أو بعد أن تعاهدوا على إنكارها أمام الغرباء.
• • •
حاولت جاهدا أن أقرأ فى سياسات الرئيس ترامب تجاه الشرق الأوسط ماذا يعنى له «العربى»، فهمت أنه لا يرى إلا إسرائيل فى الشرق الأوسط ومالا وفيرا فى انتظاره ليحمله ويرحل به وفلسطينيين أجرموا فى حق إسرائيل وأمريكا حين سبقوا اليهود لسكنى هذه الأرض الجميلة قبل أن تقع عليها أعين يهود من نوع نتنياهو ومطورين من نوع ترامب وأديلسون وويتكوف وغيرهم كثيرون. الناس يسألون وهم معذورون فى فضولهم، يسألون إن سقطت فلسطين فعليا من جدول اهتمامات العرب أم ليس بعد، ويسألون إن لم تكن مواقف الاتحاد الأوروبى الأخيرة من أمر الدولتين أكثر من تبرئة ذمة خاصة أن مستقبل هذا الأمر يزداد غموضًا وتعقيدًا مع كل يوم يمر.
• • •
لا يختلف اثنان حول الاعتراف بأن السنوات الأخيرة فى عالم العلاقات الدولية شهدت ميلًا متزايد القوة للتعاطف مع حكومات وزعامات شعبوية التوجه بل ونازية الهوى. كثيرة هذه الأيام التوجهات المتطرفة دينيًا ومذهبيًا وقبليًا وطائفيًا على حساب قاعدة «الدولة الأمة». كثيرة أيضًا، وبخاصة فى الشرق الأوسط الأساطير المتوارثة والمختلقة وبالتالى كثيرة هى الأوهام والأحلام أسطورية المولد والطبيعة. أخشى ما أخشاه أن يتكرر نموذج الانفراط السورى حول أساطير من هذا النوع أو ذاك. هذا الانفراط أثبت أنه المفضل لدى منظرى السياسة الخارجية الإسرائيلية، وبالفعل صار يحتل مكانًا بارزًا فى منظومة إسرائيل الكبرى أو الشرق الأوسط الجديد، المنظومة الجارى نسجها حاليًا باتفاقات وترتيبات تضمن تطبيق نظام أمن وحماية، تسعى إسرائيل لتطويره ليليق شكلًا وقدرة، وليصبح الدرع الواقية لدول صغيرة فى الشرق الأوسط ضد «النفوذ الإيرانى» أو غيره.
• • •
كثيرون صاروا يفضلون إضافة مسألة التغير فى نظام توازن القوى العربية إلى قائمة تعقيدات البيئة الحاضنة لجميع عمليات صنع القرار العربى. لا أرفض هذا الرأى وإن كنت أخشى علينا جميعًا من خطورة تسليم هذا الأمر برمته إلى «السوشيال ميديا»، حيث العواطف جارفة والتعقل والرشادة منبوذتان. هنا يكمن الخطر ويتهدد السلم وقد تسقط قلاع كثيرة إذا لم يسرع القابضون على التوازن فأبعدوه عن الشارع وأعادوه إلى حيث يجب أن يكون، فى منظمة عمل عربى مشترك متطورة ومعدلة وناجزة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved