مقاربات استشرفت ملامح إسرائيل الراهنة قبل عشرة أعوام

قضايا إسرائيلية
قضايا إسرائيلية

آخر تحديث: الأربعاء 20 أغسطس 2025 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

قبل عقد من الأعوام، وتحديدًا فى خريف 2015، نشر ألوف بن، رئيس تحرير صحيفة «هآارتس» الإسرائيلية، مقالة فى مجلة «ذى ماركر» الشهرية، شدّد فيها على أن تفكّك «النواة الصلبة» فى المجتمع الإسرائيلى وارتفاع الوزن الديمغرافى لمن أسماهم «أقليات» أكثر تأثيرًا على مستقبل إسرائيل من رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ووزير ماليته فى ذلك الوقت موشيه كحلون، وعائدات الغاز الطبيعى. وأشار إلى أن تزايد أعداد اليهود الحريديم (المتشددون دينيًا) والمنتمين إلى الصهيونية الدينية فى مقابل تراجع أعداد «العلمانيين» يُعدّ أبرز التغييرات الديمغرافية فى المجتمع الإسرائيلى وسوف يتعمق خلال الأعوام المقبلة.
وقد ارتأيت أن أعيد التذكير بهذه المقالة الآن لأنها كشفت فى حينه أمامنا زوايا مهمة قلّمـا يتم التطرّق إليها لدى تناول الواقع القائم فى إسرائيل داخل حقل المعانى المستمد من استشراف إحالاته المستقبلية لا سيما على المستوى الديمغرافى. وبرأى بن آنذاك، فإن هذا التطور يضع أمام إسرائيل تحديات كبيرة للغاية، ليس أبسطها أنه لن يكون هناك اتفاق حول «الطابع القومى» المشترك والموحِّد للدولة بين مختلف فئات المجتمع الإسرائيلى.
يمكن القول إن هذه المقالة كانت مقاربة مهمة استشرفت، بكيفية معينة، ما آلت إليه إسرائيل فى الوقت الحالى. أشير فيه من ضمن أمور أخرى إلى أن التقديرات الإحصائية الديمغرافية الإسرائيلية الرسميّة حول العقدين المقبلين تركّز على أنّ ثمّة تغيّرات جديّة متوقّعة خصوصًا فيما يتعلّق بمصادر النمو السكانى، وبظاهرة تديّن المجتمع اليهودى التى تُقاس بأعداد المتدينين ونسبتهم من بين السكان عمومًا، وبانخفاض معدلات الخصوبة، وغير ذلك من التطوّرات التى من المتوقع أن تتطلّب مزيدًا من الإنفاق الحكومى على الرفاه الاجتماعى بدلًا من التقليصات فى هذا المجال ومن اللجوء إلى الخصخصة.
• • •
شهدت إسرائيل خلال الأعوام الأخيرة (قبل عام 2015) عدة بوادر تشى بإحالات هذه التغيرات الديمغرافية فى المستقبل، وفى صلبها ازدياد قوة المجموعات الحريدية والدينية التقليدية، وهى تغيرات أدت وتؤدى إلى تحولات سياسية أيضًا. وأكدت اجتهادات كثيرة فى هذا الشأن أنه يتعيّن تناول هذه التغيرات فيما يتجاوز الأرقام الجافّة، إذ إنه فى ظل الوضع الذى تزداد فيه قوة المجموعات الدينية. القوموية ويتصاعد نفوذها السياسى، من الطبيعى أن يحدث اصطدام مع القيم الديمقراطية وحُكم القانون.
وبناء على ذلك لم يكن من المستغرب أن يتصاعد الجدل حول موضوع الدولة اليهودية وصراعها مع الدولة الديمقراطية فى أوساط الجمهور الإسرائيلى فى الآونة الأخيرة. وعلى هذه الخلفية تحديدًا جرت فى الكنيست الإسرائيلى على مدى الأعوام القليلة الفائتة محاولات متواترة لسن قوانين أقل ما يُقال فيها إنها غير ديمقراطية، وجميع هذه القوانين لها غاية مشتركة واحدة، هى إقصاء الآخر واضطهاد الأقليات. كما أنه حين تساءل بعض أصحاب هذه الاجتهادات: إلى أين ستصل إسرائيل مع التركيبة الديمغرافية هذه؟ سرعان ما أجابوا قائلين: «قد يكون من الصعب أن نعرف ومن الخطير أن نتنبأ، لكن الاتجاه هو نحو دولة دينية أكثر وديمقراطية أقل».
• • •
بعد نشر مقالة ألوف بن بأسبوعين نشرنا فى ملحق «المشهد الإسرائيلى» (6/10/2015) ترجمة لمقاربة نظرية مطوّلة من جملة مقاربات تتداول نُخب إسرائيلية من خلالها فى الآونة الأخيرة جدلًا مهمًّا بشأن «الواقع القائم» فى محور الصراع الفلسطينى - الإسرائيلى وما قد يؤول إليه فى المستقبل. وهى مقاربة للبروفسور زئيف شتيرنهيل (1935- 2020)، المؤرخ الإسرائيلى البارز، والذى تعرّض فى 25 سبتمبر 2008 إلى محاولة اغتيال على خلفية الأفكار السياسية التى يتبنّاها.
وفى مقاربته التى كتبها قبل عقد من الأعوام توصّل هذا المؤرّخ الإسرائيلى إلى استنتاجات فكرية تنطوى على أهمية، على شاكلة ما يلى:
1- إن خرافة «الحق التاريخى اليهودى فى فلسطين» أفقدت وما تزال تفقد أجزاء كبيرة من المجتمع الإسرائيلى رُشدها وصوابها.
2- إن معسكر الوسط ـ اليسار الذى ورث العجز الفكرى عن حزب العمل يقف الآن (قبل 10 أعوام) عاجزًا عن وضع وطرح بديل أيديولوجى للمستوطنات فى الأراضى المحتلة منذ 1967.
3- إن الاحتلال (منذ 1967) هو، برأيه، أساس وأصل الحرب مع الفلسطينيين، وطالما لم يعترف المجتمع الإسرائيلى بحقوق متساوية للشعب الآخر المقيم فى هذا البلد فستستمر الحرب ويغرق أكثر فأكثر فى واقع كولونيالى وفى واقع أبارتهايد مكشوف وصريح أصبحا قائمين فى المناطق (المحتلة)، كما سيغرق فى أوهام هدّامة أيضًا مثل وهم «القدس الموحدة».
4- أنه بعد عام 1948 كان ينبغى تدشين مرحلة جديدة لـ«الدولة» يكون الدستور رمزها الأبرز والأوضح على أساس ما وعدت به «وثيقة الاستقلال»، وكان إلزاميًا أن يكون هذا دستورًا ديمقراطيًا يقوم على أساس حقوق الإنسان ويضع مجمل المواطنين، لا جماعة إثنية أو دينية واحدة، فى صلب الكينونتين السياسية والاجتماعية وفى مركزهما.. إلخ.
واضح أن شتيرنهيل صهيونيّ حتى النُخاع، إنما من ذلك الطراز الذى «يؤمن» بـ«صهيونية الدولة» لا بـ«صهيونية الأرض»، والدولة فى نظره تمثل الهدف، وليست الوسيلة، وذلك فى مقابل صنف آخر «آمن» وما يزال بأن الصهيونية هى عبارة عن تجديد «الصلة التاريخية التى انقطعت» بين «شعب إسرائيل» و«أرض إسرائيل» فى المنطقة الممتدة بين البحر الأبيض المتوسط ونهر الأردن، والدولة ليست إلا وسيلة لإنجاز هذا التزاوج المتجدّد، فيما أن الأرض هى القيمة التى يجب عدم التنازل عنها بأى حال، وينبغى ألا تقف أمامها أى «خطوط خضراء».
وحتى داخل هذا الطراز من الصهاينة، الذى ينتمى شتيرنهيل إليه، تجد أشخاصًا كثيرين متعاطفين مع الصنف الآخر وفكرة «أرض إسرائيل» التاريخية، ويشدّدون على «الجذور القومية» المزروعة فى الضفة الغربية وليس داخل تخوم الخط الأخضر فقط. غير أنهم بموازاة ذلك يصرّون على أن المسألة التى يتعيّن مواجهتها ليست كامنة هنا، بل إنها كامنة فى «حسم» الاختيار بين تجسيد «كل الحقوق التاريخية»، الذى سيكون ثمنه الحتمى استعباد أو طرد الشعب الآخر، وبين تجسيد جزء من هذه الحقوق التاريخية، بصورة تتيح إمكان إيجاد فرصة معينة لـ«حل وسط قومى». كما تجد بين هؤلاء أناسًا يستفظعون قيام اليمين الإسرائيلى، بما فى ذلك اليمين الاستيطانى، بعرض كل مؤيدى تجسيد جزء من الحقوق التاريخية من خلال تطبيق مقاربة التقسيم على أنهم من «معسكر السلام».
ومن الواضح أن ثمة قاسمًا مشتركًا يجمع بين الصنفين، وهو التمحور من الناحية العقائدية حول «الحقوق القومية لليهود» فى فلسطين، غير أن الصنف المؤمن بـ«صهيونية الأرض» مستعد لأن «يجازف» بمسألة الحفاظ على الأغلبية اليهودية، من أجل مواصلة التمسك بالأرض التى وراء «الخط الأخضر»، فى حين أن الطراز المؤمن بـ«صهيونية الدولة» - ومثلما كان أيضًا لدى صدور القرار الأممى بشأن تقسيم فلسطين من جانب الأمم المتحدة (1947) - على استعداد لأن يقسم الأرض لاعتقاده بأن ذلك من شأنه أن يحول دون اندثار «الدولة اليهودية» فى وسط أغلبية عربية. وهو، بطبيعة الحال، استعداد غير ناجم أساسًا عن قناعة أصحابه بضرورة تلبية الحقوق القومية الفلسطينية التى ما زالت تُنتهك منذ نكبة 1948.
• • •
لا بُدّ من أن نعيد تأكيد ما سبق أن أكدناه فى أكثر من مقام فى الماضى، وفحواه أن هذا «الجدل السياسى» فى المجتمع الإسرائيلى بشأن مستقبل الأراضى المحتلة منذ 1967 الذى يرى البعض أنه مركزى، يبدو فى الظاهر كما لو أنه جدل على السياسة العامة التى يتوجّب على المؤسسة السياسية أن تنتهجها إزاء القضية الفلسطينية، لكنه فى الباطن جدل على «ما هى الصهيونية»، ويتسم بقدر كبير من التمحور الاستحواذى حول الذات. وحتى لو ترتبت على هذا الجدل مواقف تجاهر هنا وهناك بتأييد «تقسيم الأرض»، أو بدعم مقاربة الدولتين، فإن أصحاب هذه المواقف، على غرار شتيرنهيل، ما زال ينقصهم أمر جوهرى، هو رؤية أن «دولة الصهيونية» نشأت بالخطيئة وإثم الاستعمار الإحلالى مع طرد مئات الآلاف من الفلسطينيين من وطنهم، وأنه تبقى ثمة حاجة أولًا ودائمًا للتكفير عن هذه الخطيئة، عبر الاعتراف باقترافها بداية، ومن ثم تحمّل المسئولية الأخلاقية عن حلّ يعيد الحق القومى الفلسطينى إلى أصحابه.

أنطوان شلحت
المركز الفلسطينى للدراسات الإسرائيلية

النص الأصلى:

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved