حياة الحقائق
محمد زهران
آخر تحديث:
الأحد 20 أكتوبر 2019 - 6:05 ص
بتوقيت القاهرة
منذ عدة أيام حضرت مناقشة كتاب وحفل توقيع للكاتب الكندي والمقيم في أمريكا مالكوم جلادويل (Malcolm Gladwell) في مانهاتن بمدينة نيويورك، ولأني أعلم مقدار شهرته كواحد من أهم الكتاب الغير روائيين (non-fiction writer) فقد فضلت الذهاب للمكتبة التي ستتم فيها المناقشة وحفل التوقيع قبل الموعد بحوالي ساعة ونصف لأجد مكاناً للجلوس وبعض الوقت لأحتسي القهوة وأستريح من عناء يوم طويل في الجامعة، أخذت أتفحص في وجوه الحاضرين ووجدت أن أغلبهم في العقد الرابع من العمر أو أكبر وهو ما يدل على أن أغلب الشباب صغار السن لا يهتمون كثيراً بالأدب الغير روائي علماً بأن كتابات جلادويل شيقة جداً وممتعة وتقترب من الأدب الروائي، أعتقد أن ذلك أيضاً صحيح إلى حد كبير في بلادنا، السؤال هو لماذا؟ لماذا يحب الشباب الصغير قراءة الأدب الروائي أكثر من غيره من أنواع الآداب الأخرى؟ هل لأنه أسهل؟ كما قلنا فإن هناك كتاباً غير روائيين كتاباتهم سهلة جداً، ونفس الشئ بالنسبة للتشويق فهناك كتاب كتاباتهم الغير روائية مشوقة جداً، عندما أسأل هذا السؤال لبعض المعارف أو الأصدقاء بدلاً من أن أحصل على رد يكون ما أحصل عليه هو هجوم من نوعية "وماذا في قراءة الروايات؟ إنها تنمي المشاعر وتعطيك تجارب وأيضاً بعض المعلومات"، هذا لا يرد على سؤالي لأن هناك كتب غير روائية مثل الكتب التاريخية والسير والتراجم تفعل نفس الشئ، أو أحصل على رد ملتف مثل: "ولكن الشباب يقرأ أيضاً الأدب الغير روائي إنظر مثلاً حفلات التوقيع للكاتب الفلاني"، مازال السؤال مطروحاً: لماذا يفضل الشباب قراءة الروايات أو لنكن أكثر دقة لماذا لا يستسيغون الحقائق المجردة ويفضلونها مغلفة بالخيال؟
بدأت المناقشة مع جلادويل وهي كانت عن كتابه الجديد (Talking to Strangers) أو "الحديث مع الغرباء"، الكتاب يتحدث عن سوء الفهم الذي يحدث حين يتحدث طرفان من بيئات وثقافات مختلفة وكيف أن سوء التفاهم هذا أدى إلى مصائب كبرى في التاريخ وحوادث دموية، المهم لن نتكلم عن الكتاب فكاتب هذه السطور لم ينته من قراءته بعد، لكن أثناء النقاش في الندوة ذكر الكاتب معلومة مهمة جداً وهي أن الشخص إذا حضر واقعة ما بنفسه ورأها رأي العين فإنه عندما يحكيها لشخص آخر فإنه يضع معلومات خاطئة أو غير دقيقة في وصفه ويفعل ذلك بدون قصد لأن من يرى حادثة ما تتدخل في رؤيته ثقافته ومسلماته بالإضافة طبعاً إلى عدم الدقة في الذاكرة، أعتقد أن الجميع يعرف هذه المعلومة بطريقة أو بأخرى ولكن جلادويل تحدث عن دراسات وأبحاث تؤكدها، ماذا نتعلم من ذلك خاصة ونحن قد تحدثنا في غير موضع عن أهمية الثقافة العلمية؟ وما أهمية ذلك في الثقافة العلمية؟
عندما نكتب خبراً ما عن إكتشاف علمي معين أو حادثة علمية ما يجب أن نعتمد على عدة مصادر، ولا نعني بالمصادر هنا عدة مواقع على الإنترنت ولكن نعني التحدث مع عدة أشخاص من الذين إشتركوا في هذا الإكتشاف كل على حدة وسؤاله عن نفس المعلومة ثم بعد ذلك نكتب الخبر بطريقة مشوقة تأخذ الشكل الأدبي الروائي حتى لا يملها الناس، فحياة الحقائق تعتمد على الدقة في النقل وعلى التشويق والرقي في التقديم.
الموضوع يكون أصعب كثيراً عندما نتكلم عن أحداث تاريخية متعلقة مثلاً بحياة أحد من العلماء أو إكتشافات علمية معينة، في تلك الحالة يكون من المستحيل الوصول إلى مصادر المعلومات الأساسية وأيضاً يتدخل الكتاب بكثير من "البهارات" (وهي الكلمة الأخف وطأة من كلمة "الكذب") لجعل القصة مشوقة مثل قصة تفاحة نيوتن أو جعل هذا العالم أو ذاك ملك منزل لا يخطئ، واحد من أهم كتاب السير الذاتية في العالم حالياً هو والتر إيزاكسون (Walter Isaacson) وقد كتب سير بنجامين فرانكلين وأينشتاين وستيف جوبز ولكن كانت مهمته أصعب كثيراً عندما كتب كتابه الأخير عن ليوناردو دافنشي، كُتب والتر إيزاكسون من الحجم الضخم المليئة بالمعلومات الدقيقة، كتابه عن دافنشي كان صعب لأن الوصول إلى مصادر موثقة يحتاج إلى السفر إلى أماكن كثيرة واستنطاق الكثير من الوثائق للوصول إلى صورة متكاملةز
أرجو ألا نجعل مقالاتنا العلمية مجرد قراءة بعض المقالات على الإنترنت ثم كتابتها بأسلوبنا باللغة العربية وفقط، يجب أن نبذل جهداً أكبر لتبقى الحقائق حية.