عزلة التخصصات العلمية في الجامعة!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 20 ديسمبر 2019 - 9:45 م
بتوقيت القاهرة
لعل من أخطر ما نوقش فى الندوة التى عقدت الأسبوع الماضى، حول الكتاب الجديد للمؤرخ والأكاديمى المعروف الدكتور محمد عفيفى «نوافذ جديدة ـ تاريخ آخر لمصر» (منشورات بتانة 2019)، فكرة انعزال التخصصات العلمية داخل دائرة العلوم الإنسانية إجمالًا، وهو فى ظنى من أخطر وأفدح ما حدث فى التعليم الجامعى طوال العقود الأربعة أو الخمسة الماضية؛ إذا عممنا الفكرة أيضًا على الكليات العملية أو العلمية والرياضية البحتة (الطب والهندسة والعلوم والزراعة.. إلخ).
فجزء كبير من أزماتنا التى نعانيها، فى التعليم، تتلخص فى تكريس عزلة التخصصات عن بعضها بعضًا؛ فيدعى دارس الطب أنه لا يلزمه شىء من تذوق الأدب، ولا أن تكون لغته «العربية» فى حدها الأدنى من الإجادة والسلامة، ويثور طالب العلوم فى وجه من يطالبه بأن يعرف شيئًا عن نظرية المعرفة والتفكير النقدى! ويرد بعنف «نحن أهل العلم وما لدينا يكفينا»!
الانغلاق الذى فرضته أغلب الأقسام العلمية على ذاتها (تراجعًا وانسحابًا واستجابة للتردى المخيف فى الحد الأدنى من المعرفة التى يجب أن تتوافر فيمن ينتسب إلى هذه الأقسام والكليات)، بموازاة الجمود الذى ضرب أقسام العلوم الإنسانية (وهى بطبيعتها تتأبى على الانغلاق والاكتفاء بذاتها)، فى العديد من جامعاتنا وكلياتنا (إلا من رحم ربى!)، أدّى إلى كارثة بكل المقاييس، تتبدى فى المستوى المفزع للرسائل المقدمة للحصول على الماجستير والدكتوراه، وفى مستوى وثقافة وتكوين هؤلاء الذين صاروا أساتذة، وأساتذة مساعدين حاصلين على درجات علمية، دون أن يجاوز تكوينهم العلمى تكوين طالب متوسط المستوى فى المرحلة الثانوية (إلا من رحم ربى حتى لا يتهمنا أحد بالتجنى وعدم الاحتراز)!
وحدة العلوم الإنسانية، وتنوع المعارف وتعددها داخل هذه الوحدة، و«البينية» المذهلة التى فرضتها التطورات والمستجدات المعرفية فى العالم كله، تقريبًا صارت بمعزل تام عن الذين يتخرجون فى كليات الآداب، والتربية، والفنون، والحقوق، والعلوم السياسية، والإعلام.. إلخ، وما يوازيها، وصار الباحث فى الأدب والنقد بالكاد ــ إذا اجتهد ــ يكتفى بقراءة ما يسميه كتب التخصص (وفى الأغلب تصل إلى صفحات مبتورة من فصلين أو ثلاثة على الأكثر!)، ولا يعرف شيئا عن التطور المنهجى فى التخصصات الأخرى، ويكاد لا يملك أدنى تصور عن المعرفة التاريخية أو الاتصال بالعلوم الاجتماعية أو المذاهب الفلسفية، وعن تذوق الفنون التشكيلية والموسيقى.. إلخ.
وأصبح الباحثُ فى العلوم التاريخية والفلسفية والسياسية والاجتماعية ــ إذا افترضنا امتلاكه الحد الأدنى من الملكة اللغوية التى هى فى تصورى شرط لازم وملزم لكل من يشتغل بالعلوم الإنسانية (تاريخًا وفلسفةً واجتماعًا.. إلخ) ــ مبتوت الصلة، بالكلّية، بالأدب وأجناسه وأنواعه، وبالفلسفة ومذاهبها وتفرعاتها، وبالنظريات الاجتماعية وتطوراتها.
الغريب أن الجامعة المصرية منذ تأسيسها، وإبان توهجها وازدهارها، كانت تتبنى هذه الرؤية المنفتحة المستنيرة التى تجعل من الفرقة الأولى فى كلية الآداب سنة إعدادية «إلزامية» لكل من يلتحق بها فى جميع التخصصات، وأظنُّ أن العميد الدكتور طه حسين، وجيله الرائد كله، كان واعيا تمامًا بهذه النظرة، الدكتور طه حسين، وأحمد أمين، والشيخ مصطفى عبدالرازق، والشيخ أمين الخولى، يكادون جميعًا أن يكونوا من المؤمنين تمامًا ببداهة هذا التصور، والانطلاق منه فى التدريس، وإعداد أجيالٍ من الطلاب تتخرج فى كلية الآداب وهم يمتلكون الحد الأدنى من هذه المعرفة الكلية الشاملة.
ولعل نجيب محفوظ أكبر شاهد وأبرز نموذج على التحقق الكامل لهذا الإعداد؛ إعداد طالب مثقف حقيقى، يجيد لغتين على الأقل (عدا تمكنه من لغته الأم)، قادر على أن يخوض رحلة معارفه الجادة الرصينة بعد تخرجه فى الجامعة، ويكون، وهو الذى تخرج فى قسم الفلسفة، وكان على وشك إعداد أطروحته للماجستير حول (الجمال فى الفلسفة الإسلامية)، أكبر كاتب وأديب وروائى باللغة العربية، وأن يقدم لها أكبر منجز إبداعى فى المائتى سنة الأخيرة.
الأمران متلازمان ولا انفصال بينهما؛ وحدة العلوم الإنسانية، وبينية المعرفة، وتداخل الاختصاصات وليس انعزالها أو انقطاعها عن بعضها البعض، والآخر هو التكوين العلمى فى حده الأدنى للباحثين فى العلوم الإنسانية، وهذا وحده يطول فيه الكلام ويتشعب، والحديث ذو شجون ومرارات.
الثقافة هى عدتنا وعتادنا فى رحلتنا نحو المستقبل، ولا ثقافة بغير تعليم، فإذا أردنا أن نصلح الثقافة فلنبدأ بإصلاح التعليم.