شبح الحرب النووية
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 20 ديسمبر 2021 - 10:10 م
بتوقيت القاهرة
فى مؤشر جديد على إخفاق نظام منع الانتشار النووى، وتعثر الجهود الرامية إلى تجنيب البشرية ويلات مواجهات نووية مروعة، يخيم شبح الحرب النووية على الأفق الدولى الملبد بغيوم حرب باردة ثلاثية بين واشنطن، وموسكو، وبكين. فبجريرة احتدام التأزم على الحدود بين أوكرانيا وروسيا، بما يستتبعه من تصاعد للتوتر بين الغرب وموسكو، التى تدعمها الصين على استحياء، لا تتورع الأطراف المتناحرة، عن استحضار الخيار النووى، لإضفاء الصدقية على استراتيجياتها الردعية، وإسباغ الجدية على تهديداتها وحروبها الكلامية.
فى تصريح لفضائية «فوكس نيوز»، الأمريكية، فى التاسع من الشهر الجارى، ناشد السيناتور الجمهورى، روجر ويكر، الرئيس، جو بايدن، عدم استبعاد إمكانية توجيه ضربة نووية استباقية لروسيا، حالة إقدامها على مهاجمة أوكرانيا. وردا على ذلك التحريض، الذى اعتبرته «غير مسئول، وغير مدروس»، أصدرت السفارة الروسية بواشنطن بيانا، نصحت فيه الأمريكيين، غير المستنيرين، الرجوع إلى البيان الأمريكى الروسى المشترك، الذى أصدره الرئيسان بايدن وبوتين، يوم 16 يونيو الماضى، وأكدا بموجبه التزامهما التام بمبدأ استحالة وجود رابح فى الحرب النووية، التى لا ينبغى لأى طرف إطلاق العنان لها. ولم يغفل البيان، تحذيرالساسة الأمريكيين من مغبة استخدام الأسلحة النووية مادة للمزاح، أو التهديد، أو استعراض القوة، خصوصا بعدما غدت أكثر حداثة وتنوعا، وأشد فتكا من أى وقت مضى.
وردا على التهديدات الأمريكية المتوارية، لم تتورع روسيا عن التلويح بالجهوزية المطلقة لترسانتها النووية، بمختلف مكوناتها وأدواتها فائقة التطور، للاضطلاع بأية مهام تُسنَد إليها عند اللزوم. بدورها، حذرت الخارجية الروسية من أن موسكو سترد «عسكريا» بنشر أسلحة نووية تكتيكية، كانت محظورة بموجب معاهدة أبرمتها موسكو وواشنطن عام 1987، وانتهى أجلها عام 2019، لحظر استخدام الأسلحة النووية متوسطة المدى. وذلك إلم تتعهد واشنطن وحلف شمال الأطلسى، بتقديم ضمانات أمنية خطية لروسيا، توقف توسع الناتو شرقا، ليشمل أوكرانيا وجورجيا، علاوة على تجميد عمليات نشر المنظومات التسليحية الغربية المتطورة، على حدود روسيا الغربية.
بموازاة ذلك، أعد محرر الشئون الدولية بصحيفة «الجارديان» البريطانية، جوليان بورغر، مؤخرا، تقريرًا تحدث فيه عن تجربة محاكاة نووية، عايشها، مؤخرا، فى حضرة طائفة من المسئولين الأمريكيين الحاليين والسابقين. وقد تناولت التجربة رد الفعل المتوقع من قبل الرئيس الأمريكى حيال تعرض الولايات المتحدة لهجوم نووى روسى، يشنه 299 صاروخا باليستيا. وافترضت المحاكاة أنه بمجرد اندلاع العدوان، ستنتفض واشنطن لتوجيه ضربة نووية صاروخية مضادة أشد قسوة. ولم تتجاهل المحاكاة رصد انطباعات المسئولين الأمريكيين عن العواقب الوخيمة لهكذا مأساة.
تاريخيا، وردت أول إشارة تحذيرية بشأن السلاح النووى، على لسان الرئيس الأمريكى الأسبق، هارى ترومان، أثناء انعقاد مؤتمر بوتسدام بألمانيا، فى يوليو 1945، الذى ضم إلى جانب ترومان، كلا من الزعيم السوفياتى جوزيف ستالين، ورئيس الوزراء البريطانى وينستون تشيرشيل؛ حيث التقى ثلاثتهم للتباحث بشأن إدارة الوضع فى ألمانيا بعيد ستة أسابيع من استسلامها فى الحرب الكونية الثانية، وبحث سبل التعاطى مع تداعياتها، وإرساء دعائم نظام ما بعد هذه الحرب، ومناقشة القضايا المتعلقة بمعاهدة السلام. فعلى هامش المباحثات التى استمرت أياما، ألمح ترومان لستالين، دونما تفصيل، بامتلاك الولايات المتحدة سلاحا، لا قبل للبشرية به، ويحظى بقدرة تدميرية غير مسبوقة، ما يخوله تغيير موازين القوى العالمية. لكن الإشارة المقتضبة لم تمر على مسامع متلقيها السوفياتى مر الكرام. إذ شكلت حافزا لتشجيع السوفييت على تسريع وتيرة أنشطتهم العلمية والبحثية والتجسسية، التى انطلقت قبل تلك الواقعة بأعوام قلائل، حتى تسنى للاتحاد السوفياتى بلوغ الإنجاز الاستراتيجى المتمثل فى امتلاك السلاح النووى بحلول العام 1949. عساه يلحق بالركب الأمريكى ــ البريطانى ــ الكندى، الذى تشارك «مشروع منهاتن» السرى بولاية نيوميكسيكو الأمريكية، لانتزاع قصب السبق فى امتلاك أقوى سلاح صادفه الإنسان.
صيف العام 1945، أبت الولايات المتحدة إلا تجشم مغامرة الاستخدام المأساوى، الأول والوحيد، حتى الآن على الأقل، للسلاح النووى، فى تاريخ الخليقة. ففى السادس من أغسطس من ذلك العام، قامت قاذفة القنابل الأمريكية من طراز «بى 29»، بإلقاء قنبلتها النووية الأولى المسماة «الولد الصغير»، على مدينة هيروشيما اليابانية. وبعدها بثلاثة أيام، أتبعتها بقنبلتها الثانية، المسماة «الرجل البدين»، التى أسقطتها على مدينة نجازاكى، ما أودى بحياة زهاء ربع مليون إنسان، وحول المدينتين الحيويتين إلى أطلال. وإلى جانب كسر الإرادة الحربية لليابانيين، كانت واشنطن تستهدف الانتقام لشرف العسكرية الأمريكية، الذى انتهكه اليابانيون، إثر مهاجمتهم القاعدة البحرية ببيرل هاربر نهاية عام 1941. تلك التى نالت من الكبرياء الأمريكى، وتمخضت عن خسائر بشرية ومادية فادحة، تجلت فى غرق وفقدان21 سفينة حربية، وتدمير 188 طائرة حربية، وإزهاق أرواح 2400 أمريكى.
إبان أزمة السويس عام 1956، جاء أول تلميح رسمى سوفياتى باستخدام السلاح النووى، حينما وجهت موسكو لكل من لندن، وباريس، وتل أبيب، تحذيرها الشهيرالمعروف بـ«إنذار بولجانين» فى نوفمبر من ذات العام. إذ طوى تهديدات مبطنة باستخدام السلاح النووى السوفياتى، الذى لم يأت الإنذار على ذكره صراحة، ما لم يتوقف العدوان الثلاثى الغاشم، الذى اقترفته الدول الثلاث ضد مصر. ولم تمض سوى أيام، حتى انفرجت الأزمة، فى أعقاب امتثال الثالوث المعتدى للإنذار، تجنبا لتصعيد، قد لا تحمد عقباه.
خلال ما عرف بأزمة الصواريخ الكوبية فى أكتوبر 1962، وقف العالم على أطراف أصابعه، لمدة ثلاثة عشر يوما كابوسية، ترقبا لمواجهة نووية محدقة بين القوتين العظميين، بعدما وضعت كل من واشنطن وموسكو ترسانتاهما النووية على أهبة الاستعداد. بيد أن البشرية تنفست الصعداء، بمجرد نجاح مساعى التسوية السياسية فى نزع فتيل الأزمة، عبر عقد صفقة بين كينيدى وخروتشوف، أزيلت بموجبها الصواريخ النووية من كوبا وتركيا، مع تعهد أمريكى بعدم غزو الجزيرة الكاريبية.
أثناء حرب رمضان المجيدة، خيم شبح الحرب النووية على العالم من جديد؛ حيث أكدت وثائق جمعها مركز ويلسون، قيام واشنطن يوم 24 أكتوبر 1973، وللمرة الأولى منذ أزمة الصواريخ الكوبية، بإعلان «حالة الاستعداد الدفاعى 3» لقواتها المسلحة، بما فيها قطاعات الأسلحة النووية. وذلك فى تحذير رادع لموسكو، التى أفادت تقارير استخباراتية، وقتئذ، بإرسالها أسلحة نووية إلى مصر. فحينئذ، استجاب الرئيس الأمريكى نيكسون، لنصائح مستشاريه ومساعديه، بالاستعداد لحرب نووية محتملة ضد موسكو، بغية إجهاض أية تحركات سوفيتية لاستغلال أزمة الشرق الأوسط، أو استثمار انعكاسات فضيحة «ووترجيت» على وضع نيكسون الداخلى، لتعزيز التمدد السوفياتى فى المياه الدافئة. غير أن تدخل يورى أندروبوف، مدير المخابرات السوفيتية «كيه.جى.بى»، وتحذيره الكريملين من مغبة خوض غمار مواجهة نووية مفجعة، كبح جماح الأمور.
وتحت وطأة الرغبة الملحة فى عبور هزيمتها المخزية خلال الأسبوع الأول من حرب أكتوبر، اضطرت إسرائيل إلى التخلى، للمرة الأولى منذ إعلانها، عن استراتيجية «الغموض النووى». فوفقا لمجلة «تايم» الأمريكية، أجبر الانتصار العربى المذهل، الذى صادف رغبة نيكسون فى السماح للعرب بإدراك إنجاز عسكرى محدود، يوفر لهم متكئا لخوض مفاوضات سلام شبه متكافئة، الإسرائيليين على اللجوء إلى ملاذهم الأخير، المتجسد فى ترسانتهم النووية، ضمن سياق ما يسمى «الخيار شمشون». فتوخيا لثنى نيكسون عن نهجه، ودفعه للتعجيل بتقديم الدعم، الذى يخول إسرائيل شن هجوم مضاد، بمساعدة أقمار التجسس الأمريكية، تعالت الأصوات الإسرائيلية المنادية بإخراج القنبلة النووية من القبو، ولو على سبيل المناورة أو الابتزاز الاستراتيجى. وبناء عليه، تقرر نشر صواريخ متوسطة المدى من طراز «أريحا»، وقاذفات من طراز «فانتوم»، مزودة جميعها برءوس نووية، وتوجيهها نحو مواقع القيادة والسيطرة فى القاهرة ودمشق، حتى تلتقطها الأقمار الاصطناعية الأمريكية، فتجزع إدارة نيكسون، وتُهرَع إلى إغداق المساعدات العسكرية السخية لإنقاذ الحليف المنكوب.
على مدى حولين كاملين، عكف كيسنجر على تحذير إدارتى ترامب، ثم بايدن، من أن يفضى إخفاق القيادات الصينية والأمريكية فى التوافق بشأن أسقف، لا يمكن تجاوزها، للتهديدات المتبادلة، والمنافسة المحتدمة بينهما، فى ظل استبعادهما المضلل لاحتمال اندلاع المواجهات ببؤر ملتهبة، كتايوان، أو بحر الصين الجنوبى، إلى تدحرج العالم إلى أتون حرب كونية ثالثة أكثر ضراوة من سابقتيها. ولم يخف كيسنجر قلقه من تحول تلك الحرب الجديدة إلى مواجهة نووية أشد تدميرا من تلك التى ألقت بظلالها على العالم قبل قرابة ثمانية عقود خلت. وتلافيا لهذا المآل المذرى، نصح شيخ الدبلوماسيين، أصحاب القرار الأمريكيين بالتخلى عن اعتقادهم الراسخ، فى حتمية إبقاء القوى الصاعدة، مثل روسيا والصين، خلف واشنطن بمراحل، توسلا لتأبيد الهيمنة الأمريكية المنفردة على العالم. فقد يبرر ذلك الاعتقاد مساعى واشنطن المحمومة، لإجهاض الصعود المتسارع للصين وروسيا، ومن ثم استدعاء السيناريو الصدامى. ذلكم الذى يتناغم وأطروحة، تشارلزكينديلبيرجر، عام 1973، فى مؤلفه المعنون: «العالم فى كساد: 1929 ــ 1939»، والتى تلتمس استدامة استقرار النظام الدولى أحادى القطبية، فى تأبيد السيطرة المنفردة للقوة العظمى الوحيدة، فيما يعرف بنظرية «الاستقرار بالهيمنة». لذا ناشد الديبلوماسى المخضرم واشنطن وبكين، تجنب السقوط فى «فخ ثيوسيديدس»، بأن تقدم القوة العظمى المهيمنة على مواجهة مُنافِسَتِها البازغة، بقصد عرقلة صعودها ومنعها من مزاحمتها قيادة العالم، فتخسر النزال والزعامة معا، مثلما جرى بين أثينا وإسبرطة فى أزمان غابرة.