ليلة عرس
سيد محمود
آخر تحديث:
الثلاثاء 21 يناير 2020 - 10:45 م
بتوقيت القاهرة
من الأخبار التى أسعدتنى حقا أن الأعمال الكاملة للكاتب الكبير يوسف أبو رية ستكون متاحة أخيرا بجناح هيئة الكتاب خلال معرض الكتاب الذى يبدأ اليوم وذلك بعد سنوات من رحيل صاحبها
ويمكن أن تعتبر مقالى دعوة لقراءة الكتاب واستعادة تفاصيل العالم الفنى لكاتب كان لكتاباته نكهة خاصة ميزها نجيب محفوظ نفسه وأشاد بها كثيرا.
اختطف الموت أبو رية وهو يبدأ خطوات تحققه ككاتب كبير وباغته السرطان بعد أربع سنوات فقط من فوزه بجائزة نجيب محفوظ للرواية التى تمنحها الجامعة الأمريكية بالقاهرة عن روايته البديعة (ليلة عرس) عام ٢٠٠٥ ووضعته الرواية فى مكانة كان يستحقها منذ أن بدأ الكتابة عندما جاء للقاهرة لدراسة الإعلام وتخرج مع أولى دفعات الكلية لكنه لم يكمل فى هذا المسار وفضل أن يعمل باحثا بالمركز القومى للبحوث الاجتماعية خوفا من الصحافة التى (تبرى) موهبة الأديب كما تفعل البراية مع القلم الرصاص كما كان يقول.
تعلم أبورية جيدا من تجربة معلمه الأول عبدالفتاح الجمل الراعى الصالح لجيل الستينيات ولم يكرر خطأه فى الاستجابة لنداء الصحافة وزامل آخرين أبرزهم يحيى الطاهر عبدالله وصلاح عيسى ومحمود الوردانى وإبراهيم أصلان وإبراهيم عبدالمجيد ومحمد كشيك وحسين حمودة وإسماعيل العادلى والمترجم بدر الرفاعى واحتفظ لهم جميعا بالمحبة الصافية وكان يعمل ألف حساب لغضب سيد البحراوى ويأنس لأفكاره النقدية ولسنوات ظل فاعلا فى شلة الوراق التى ضمنت كل هؤلاء.
وحين انتقل للسكن فى مدينة نصر عرف غواية السكن إلى جوار عزت القمحاوى وطلعت الشايب وظل مثل محمد البساطى محافظا على طعم كتابته ومخلصا لعالم المدن الصغيرة التى جاء منها وبفضل هذا الانتماء لما يعرفه يسهل العثور فى كتاباته على فانتازيا من نوع خاص وغرائبية مستمدة من بشر يعرفهم ويروى تجاربهم بشغف لا يمكن تفاديه.
أحببت أبورية الذى رافقنى فى مقاهٍ لا تعد ولا تحصى لشرب الشيشة مستمتعا بصحبته
وتصرف معى دائما كأخ أكبر ومرشد أدبى كانت مهمته مساعدتى على تفادى العثرات التى تبدو فى أول الطريق.
مشيت معه لساعات دون ملل أو كلل وهو يحكى عما عاشه عند وصوله للقاهرة، شاعرا فى كل مرة أنه غادر قريته فى (هيهيا) بالشرقية قبل أن يأتى لى مباشرة.
وكنت أشك أنه عاش ٣٥ عاما فى القاهرة لأنه كان يتصرف كفلاح نزل حالا من القطار، بالغ الكرم والبساطة ويستقبل الأشياء بفرح الأطفال ويملك فضيلة الدهشة ويراها نعمة الله التى لا ينبغى أن نفرط فيها.
امتلك الراحل إلى جانب الموهبة الفياضة قلبا كبيرا وحمل حكايات لا تنتهى عن أساطير يحيى الطاهر عبدالله وعلى الرغم من تأخر شهرته إلا أنه لم يحقد أبدا على أى فرد ممن رافقوه فى الكتابة ولم اسمعه أبدا يذم فى احد أو يطعن فيه.
وأذكر أنه حين كانت الموضة أن يكون لدى الناس بريد إلكترونى جلست معه بناء على طلبه لأعلمه كيف يتعامل مع الإنترنت ويرسل ويستقبل منه وكان كل ليلة يسهر معى على التليفون يراجع الخطوات لكنه يكرر نفس الخطأ وأرد مستفزا أنا أصلا اتعلمت فى جلسة واحدة فيعلق ضاحكا أن البساطى أخيب منه وأنه لا يزال يعطى للناس بريده ومعه كلمة المرور (الباسورد)،
كان يأتى إلى مكتبى فى الأهرام ويرفض أن يصعد لكى لا يرى زملاء قدامى ويعاملونه باعتبارهم أهم منه، لأن عزة نفسه لا تقبل تعاليا من هذا النوع ويرضى بالصعود فقط فى حالة واحدة هى أن يكون جماعة (الويكلى قاعدين) قاصدا منى أنيس وهانى شكرالله، سائلا إذا كان لديهما الوقت الذى يمكنه من السمر معهما وتذكر الرفاق القدامى.
ولم يتصرف أبو رية المنتمى لليسار قلبا وقالبا كـ(مناضل) أو كاتب صاحب مشروع وكان يستحق أن ينال هذا الوصف إلا أنه أراد الاستمتاع بالحياة كشربة ماء عذبة يتجرعها مرة واحدة ومن حسن حظه أنه تزوج من الدكتورة فريدة التى كافحت لتخلد ذكراه بجائزة سنوية تحمل اسمه ويمنحها اتحاد الكتاب منذ العام الأول لوفاته ولا أظن أن زوجة أخرى من زوجات الأدباء فعلت ما فعلته الدكتورة فريدة حتى تخرج أعماله الكاملة فى طبعة جديدة تقاوم النسيان فما أضعف ذاكرة الأدباء ومن حولهم كأن حرفتهم هى النسيان.