«رسائل لها تاريخ».. عذوبة توثيق المشاعر!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
الجمعة 21 فبراير 2020 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
ظللت طوال عمرى من المغرمين بأدب السيرة الذاتية وأدب الرسائل الشخصية والاعترافات والمذكرات واليوميات، وكل ما يمت للتعبير الذاتى الفياض بصلة. فى الأدب العالمى ثمة قسم خاص بالرسائل المتبادلة بين كبار الأدباء وذويهم أو أصدقائهم من الكتاب أو خارج دائرة الوسط الأدبى عموما؛ رسائل دويستوفيسكى التى ترجمها خيرى الضامن، ومراسلات تالستوى وغاندى التى أسماها المترجم القدير أحمد صلاح الدين بـ «دولة الحب»، وغيرها نماذج على هذا النوع من الكتابة التى يتحرر فيها الكاتب أو المبدع من الرسميات وتحرى عناء الأسلوب والتشكيل؛ وإن ظل دائما ما يكتب يحمل من روحه ومن سماته وخصائصه.
فى كتابه «رسائل لها تاريخ ـ العوالم الخفية للمشاهير» يقدم لنا الكاتب والمؤرخ الفنى النشط أيمن الحكيم حزمة رائعة من الرسائل التى تتفاوت طولا وقصرا؛ حجما ونوعا، موضوعا ومجالا، لا قاسم بينها ولا رابط سوى النزعة الإنسانية القديمة الراسخة؛ البوح فى لحظة صدق لا تتكرر كثيرا بين الإنسان وذاته، لحظة تموج فيها المشاعر وتضطرب الأحاسيس وقد يحدث الاتصال الكونى المقدس بين القلب والعقل فتخرج ومضة لا مثيل لها صدقا وإخلاصا وجمالا وعذوبة!
عبر اثنى عشر فصلا ممتعا تعيدك إلى إرث الصحافة المصرية الزاهر فى سبعينيات وثمانينيات القرن الماضى حينما كانت تصدر الكتب موقعة بأسماء كبار الصحفيين البارعين فى صياغة معارفهم ومقالاتهم وكتاباتهم فى العموم بأسلوب سلس بسيط ممتع؛ يقدم المعلومة والحادثة التاريخية دون أن يتورط فى تعقيد أسلوبى أو تكديس معلوماتى أو إيغال فى توثيق يعوق عملية القراءة ويقطع تسلسلها؛ هكذا كنا نقرأ ما يكتبه هيكل وأحمد بهاء الدين وصلاح عيسى وغيرهم بلهفة ومحبة وانتظار شغوف.
أظننا سنفهم مغزى إهداء أيمن الحكيم كتابه إلى صلاح عيسى «مؤرخ زماننا الذى علمنا عشق تاريخنا. لروحه السلام ولقلمه المحبة». وعلى درب المحبة والاعتراف بالفضل والامتنان للأستاذ، يسير الحكيم فى الطريق محتذيا روح الأستاذ وقيم الكتابة المحبة؛ فلا ينسى أبدا غايته التأريخية ولا غايته التثقيفية، ويقدم بين يدى الفصول المتنوعة بإضاءات كاشفة وممتعة عن السياق السياسى والثقافى، وعن الإطار التاريخى الذى جرى فيه إنتاج هذه الرسائل وكتابتها وتداولها، حتى وصلت إلينا بين دفتى هذا الكتاب الجميل.
سيدهش قارئ الكتاب من الكم المذهل من الأسماء الشهيرة المعروفة التى عرض لها فى ثناياه، مستعرضا رسالة أو أكثر تبادلها كاتب كبير بوزن نجيب محفوظ، أو شاعر جماهيرى بنجومية نزار قبانى، أو ناقد لامع وبارز مثل رجاء النقاش، أو ابن زعيم تاريخى يكتب رسالة لوالده (من خالد عبدالناصر إلى أبيه) أو مثقف أو مؤرخ مع نظير له أو مع أحد أفراد أسرته.. إلخ.
من بين أبرز فصول الكتاب الفصل الذى تناول قصة البرقية التى وجهها نجيب محفوظ إلى قاتله فى السجن، عقب محاولة اغتياله فى أكتوبر من العام 1994. المغزى بالدقة ليس الأسطر القليلة التى احتوتها البرقية (أورد المؤلف صورة ضوئية لها بملحق الصور) بقدر ما فى الموقف كله من دلالة على طبيعة وشخصية نجيب محفوظ المتسامحة المتصالحة الطيبة؛ إنها الشخصية التى تجسد فعلا وإذا جاز التعبير النموذج الأكمل لابن الطبقة الوسطى المصرية؛ ابن ثورة 1919، ابن الجامعة الحديثة، حامل قيم النهضة والاستنارة والتقدم؛ الذى صاغ الحلم والطموح فى أكبر وأهم مشروع سردى كتب باللغة العربية فى المائتى سنة الأخيرة.
رسائل صلاح عبدالصبور العظيم إلى ابنتيه ستفتنك كما فتننا بشعره ونثره على السواء! علاقة الصداقة القوية المتينة التى جمعت بين الراحل العظيم جمال حمدان وبين العملاقين الكبيرين محمد حسنين هيكل وأحمد بهاء الدين؛ يعرف عنها جيدا المطلعون على سيرة الرجال الثلاثة؛ سيورد الحكيم فى فصل من كتابه بعض تجليات هذه العلاقة فى كلمات متبادلة، ولك أن تتوقف أمامها معجبا أو متأملا ومفكرا لترسم صورة متخيلة عن أى سياق فكرى أو ثقافى يمكن أن يجمع هؤلاء الثلاثة!
لا أظننى سأوفى هذا الكتاب الدسم حقه أو استيفاء نماذج أخرى لفصوله؛ فى مقال واحد، لكننى على ثقة بأن قارئه سيكون على موعد مع المتعة والمعرفة الزاخرة ومشاهد ولوحات لا تنسى من تاريخنا الثقافى والمعرفى الغنى الباهر.