أزمة أوكرانيا والتقارب الروسى الصينى
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 21 فبراير 2022 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
من بين تداعيات شتى طبعتها على التفاعلات الدولية، أسهمت الأزمة الأوكرانية فى تسريع وتيرة التقارب الحذر بين موسكو وبكين، على مختلف الصعد. ففيما اعتُبر دعما سياسيا صينيا لموسكو، أكد رئيسا البلدين تأييدهما لمبدأ «الأمن الشامل، والمتكافئ، وغير القابل للتجزئة». كذلك، أبدت بكين تفهمها للمخاوف الأمنية الروسية حيال الترتيبات الأطلسية بشرق أوروبا. وفى مجلس الأمن الدولى، أشاد المندوب الصينى بسياسة ضبط النفس الروسية إزاء الأزمة الأوكرانية، التى ندد بتأجيج واشنطن لها، عبرتضليل إعلامى يغذى أجواء عدم اليقين، وترويج مزاعم حول الحرب تشعل التوترات والاضطرابات.
وخلال قمة عقداها، على هامش افتتاح أوليمبياد بكين الشتوى، أطلق الرئيسان الصينى والروسى شراكة استراتيجية تستهدف موازنة النفوذ الأمريكى عالميا، وتتوسل تعددية قطبية تطوى صفحة الهيمنة الأحادية الأمريكية، وتضفى ديمقراطية على نظام دولى، يريدانه أكثرعدلا واستقرارا، انطلاقا من تصورهما لقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان. كذلك، بحث الزعيمان تأسيس منظومة مالية مستقلة، تكفل زيادة نصيب العملات الوطنية والرقمية لبنكيهما المركزيين فى التسويات التجارية البينية، التى يبلغ حجمها 110 مليارات دولار،ويأملان مضاعفتها عام 2025. وفى بيانهما المشترك، نددا باستحضار واشنطن لأجواء الحرب الباردة، عبر توسيع الحلف الأطلسى، وتمدد النفوذ الأمريكى عالميا، وتبنى استراتيجية استفزازية بمنطقة المحيطين الهندى والهادئ، تهدد السلام والاستقرار العالميين. كما انتقدا سياسة العقوبات القسرية الأحادية، التى تكرس الخلل فى موازين القوى، وتفاقم المآسى الإنسانية.
استكمالا لاتفاقات سابقة لزيادة ضخ الغاز الروسى للصين عبر خطى أنابيب «قوة سيبيريا 1» بطاقة 38 مليار متر مكعب، و«قوة سيبيريا 2»، بقدرة 50 مليار متر مكعب سنويا، ما سيجعل الصين ثانى أكبر مستورد للغاز الروسى بعد ألمانيا، تعهدت روسيا تزويد الصين بأكثرمن 200 ألف برميل نفط يوميا لمدة عشر سنوات، وعشرة مليارات متر مكعب إضافية من الوقود الأزرق. وببلوغ إمدادات الغاز الروسية للصين 48 مليار متر مكعب، سيتسنى لبكين تنويع مصادر وارداتها الغازية، بأسعار منخفضة. بينما تلتمس روسيا رفع صادرات الغاز للأسواق الآسيوية من6% حاليا، إلى31% عام 2035، متجنبة تحديات عدة تحاصر الأسواق الأوروبية، التى تلتهم جل الإمدادات الروسية.
تزامنا مع غبن الأمريكيين روسيا، واستبعادهم الصين فى مضمار التعاون الفضائى، انبرت الأخيرتان، منذ عام 2001، فى التنسيق بمجالى الرحلات الفضائية المأهولة ومحطات الطاقة النووية الفضائية. كما وقعتا العام الماضى، مذكرة تفاهم لإقامة محطة دولية مشتركة للأبحاث القمرية. وعلى الصعيد العسكرى، وقع البلدان فى ذات العام، معاهدة «الصداقة والتعاون»، التى تم تجديدها فى يوليو الماضى، وحصلت الصين بموجبها على منظومات «إس400» الصاروخية، ومقاتلات «سو57 » الروسيتين. فى غضون ذلك، أجرى البلدان عددا من المناورات البرية والبحرية، فيما تنفذ قاذفاتهما الاستراتيجية منذ عام 2019، «طلعات دورية مشتركة»، فوق بحر اليابان.
برغم تسارع وتيرة تقاربها، تظل متدنية فرص التحالف الاستراتيجى بين موسكو وبكين. فإلى جانب الثقة المهترئة، والتاريخ الصراعى، اللذين أفصحت عنهما مواجهتهما الحدودية عام 1969، تصطدم مساعيهما القلقة لبناء هكذا تحالف بعديد معوقات. فبينما يتخوف كل طرف من تضخم قوة الآخر، ويخشى تحوله إلى قطب عالمى، تتعاظم هواجس موسكو من شبح التبعية للصين، على غرار النموذج الأمريكى الكندى. فعلاوة على التفوق الديمجرافى والتكنولوجى للصين، يتجاوز حجم اقتصادها نظيره الروسى بحوالى تسعة أضعاف.
خلافا لتواضع غنائم التحالف الاستراتيجى المحتمل مع موسكو، تتجنب بكين الاصطدام بأمريكا والغرب، بما يفقدها مكاسب يستعصى تعويضها، فى ظل تباطؤ نمو الاقتصاد الصينى، جراء استمرار تداعيات جائحة كورونا، وتزايد القيود على نقل التكنولوجيا والاستثمارات وسلاسل التوريد. ففى الوقت الذى تتخطى الصادرات الصينية إلى الاتحاد الأوروبى وبريطانيا، عشرة أضعاف نظيراتها إلى روسيا، تخشى بكين من استنفار الأمريكيين للأوروبيين لتقليص تعاونهم الاقتصادى معها، ومراجعة انخراطهم بمبادرة الحزام والطريق.
فى حين تشكل الولايات المتحدة الشريك التجارى الأول للصين، فيما يعد الاتحاد الأوروبى الشريك التجارى الأول لروسيا، لا تتجاوز تجارة روسيا مع الصين 16 % من إجمالى التجارة الخارجية الروسية، و2 % فقط من حجم نظيرتها الصينية. وبعدما بلغ الاعتماد الاقتصادى المتبادل بين بكين وواشنطن مبلغا معقدا، يتحاشى كل منهما مواجهة الآخر. لذلك، حذر الأمريكيون الصين من المخاطر الأمنية والاقتصادية التى ستكابدها حالة مجاراتها روسيا فى إكراهها أوكرانيا، داعين بكين إلى إقناع موسكو بتفكيك تمركزاتها العسكرية بالمحيط الأوكرانى. بدورها، لا تزال موسكو تتحسس خطاها التقاربية مع بكين حرصا على خصوصية علاقاتها الاستراتيجية بالهند، عدوالصين اللدود، الذى يتصدر قائمة مستوردى السلاح الروسى.
قرأ كثيرون فى تتبع بكين لرد الفعل الغربى إزاء مزاعم الاجتياح العسكرى الروسى لأوكرانيا، محاولة صينية لبلورة موقف مشابه ومتزامن تجاه تايوان، خصوصا مع تزايد الاختراقات الصينية للمجال الجوى التايوانى مؤخرا. ولعل هذا ما غذى التعنت الأمريكى مع روسيا بشأن أوكرانيا. فعلاوة على اتخاذ واشنطن منطقة المحيطين الهادئ والهندى منصة لاحتواء الصين، تبرز الأهمية الاقتصادية لتايوان، باعتبارها تاسع أكبر شريك تجارى لواشنطن، كما تهيمن على صناعة الموصلات وأشباهها من الرقائق الإلكترونية. ورغم التزامها بسياسة «الصين الواحدة»، وعدم اعترافها بتايوان كدولة مستقلة، تتعهد واشنطن بالدفاع عن الجزيرة ضد أى عدوان صينى.
ظرفيا ومرحليا إذا، يبقى التقارب الصين الروسى. فهو ظرفى، لأنه وليد تصاعد الأزمة الأوكرانية، بموازاة الإصرار الأمريكى غير الحكيم على استعداء البلدين. وهو مرحلى، لأنه مرتهن بحدوث انفراجة مغرية فى علاقات أحدهما أو كلاهما مع الغرب. ويبدو أن مناهضة واشنطن لا تكفى وحدها لترسيخ دعائم تحالف استراتيجى ممتد بين خصمى الأمس. إذ لا يزال ما يفرق موسكو وبكين أكبر بكثير مما يجمعهما من مقارعة واشنطن، أو تحصيل مكاسب، تبقى عرضية رغم تنوعها.
ففى خمسينيات القرن الماضى، دشنت موسكو وبكين برنامجا لتزويد الصين بالتكنولوجيا السوفييتية، لكنه سرعان ما توارى فى بضع سنين، إثر اندلاع صدامهما العسكرى عام 1969، ثم تطبيع الصين لعلاقتها مع واشنطن فى أوج الحرب الباردة سنة 1972. وعقب سقوط الاتحاد السوفيتى عام1991، تحسنت العلاقات الصينية الروسية مجددا، وتعهد البلدان عام 1996 ببناء «شراكة متساوية وموثوقة». لكنها لم تسلم من استفزازات واشنطن المتتالية لكليهما، تارة بتصنيفها روسيا تهديدا آنيا، والصين تهديدا استراتيجيا. وتارة أخرى عبر استنهاض التحالفات المناهضة لهما، منذ زمن، على شاكلة «الناتو»، و«العيون الخمس»، ثم استحداث تكتلات جديدة لمحاصرتهما، مثل الرباعية الديمقراطية بالمحيطين الهندى والهادئ، وتجمعات «أوكوس»، و«كواد»، و«كوادبلس». ولئن ارتأى الأديب البريطانى، جورج أورويل، «الرياضة حربا بغير إطلاق نار»، لم تكتف واشنطن بمقاطعة أوليمبياد بكين الشتوى، وإنما حرضت حلفاءها ليحذوا حذوها، احتجاجا على تدهور أوضاع حقوق الإنسان فى الصين، فيما اعتبرته موسكو وبكين، انتهاكا للميثاق الأوليمبى، الذى يحظر تسييس الرياضة.
حتى الان، لم يناهز نصيب روسيا من الدعم الصينى فى أزمة أوكرانيا حيز المؤازرة السياسية الرمزية. فبينما لم يأتِ البيان المشترك لزعيمى البلدين على ذكر أوكرانيا سوى مرة يتيمة، لم يكن متوقعا لرد فعل بكين حيال أى تصعيد للأزمة أن يختلف عن سابقه عام 2014. فحينما غزت روسيا القرم وضمتها إليها، لاحقها الغرب بعقوبات اقتصادية موجعة. ورغم معارضة بكين لتلك العقوبات، وتلويحها بنصرة موسكو، سجل التبادل التجارى بينهما عام 2015 تراجعا بنسبة 29 %، فيما شهدت الاستثمارات الصينية المباشرة فى روسيا انكماشا مربكا، تلافيا لاستفزاز واشنطن وحلفائها. وحالة غزو روسيا لأوكرانيا، لم تكن موسكو تترقب من بكين غير الدعم السياسى بمجلس الأمن الدولى.
بموازاة ذلك، يقترح منظرون استراتيجيون غربيون مقاربة أطلسية لكبح جماح الاندفاعة الاضطرارية الروسية نحو الصين. تتضمن عدولا غربيا عن استعداء موسكو وبكين، مع إغراقهما فى تفاعلات اقتصادية معمقة مع أوروبا، وتفاهمات استراتيجية مع واشنطن. فضلا عن منحهما مساحة مدروسة من حرية الحركة على المسرح العالمى، بغية امتصاص رغبتيهما المحمومة فى تبوؤ مكانة كونية لائقة. فحينئذ، ستبقى مآلات التقارب الروسى ــ الصينى، مرتهنة بحسابات معقدة، للاعتماد الاقتصادى المتبادل والمتعاظم مع الغرب.