ترامب يفاوض إيران
بشير عبد الفتاح
آخر تحديث:
الإثنين 21 أبريل 2025 - 6:30 م
بتوقيت القاهرة
للمرة الأولى منذ ولوج ترامب المكتب البيضاوى عام 2017، تخوض طهران وواشنطن منذ الثانى عشر من الشهر الجارى مفاوضات اعتبرها وزير الخارجية الإيرانى «جيدة ومتطلعة إلى المستقبل». ومع اقتراب جولة ثالثة تسبقها مباحثات فنية، ينشد الجميع إدراك اتفاق نووى جديد، فى غضون شهرين؛ يحول دون امتلاك إيران السلاح النووى، ويحررها من ربقة العقوبات القاسية والمتجددة. بينما تتوسل واشنطن تلافى استهدافها عسكريا، وإنعاش الاقتصاد الأمريكى بفرص استثمارية وتجارية واعدة داخل إيران، تستجلب مليارات الدولارات، وملايين الوظائف.
ما انفكت أزمة الثقة تباعد بين الطرفين. فمن جانبه يخشى ترامب عسكرة البرنامج النووى الإيرانى، بعدما أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية أن مخزون طهران من اليورانيوم المخصب بنسبة 60% يكفى لإنتاج ست قنابل نووية. بدورها، تتخوف إيران من انسحاب ترامب مجددا من أى اتفاق نووى محتمل، توطئة لمهاجمتها، أو معاودة فرض العقوبات عليها. خصوصا بعدما انسحب عام 2018 من الاتفاق، الذى تم التوصل إليه بشق الأنفس عام 2015، واصفًا إياه بالكارثى. إذ أعاد الأموال المجمدة لطهران، ولم يضمن تقييدا مستداما لبرنامجها النووى، بقدر ما أجل امتلاكها السلاح النووى لمدة 10-15 عاما فحسب. كما لم يوقف تطور برامجها المتعلقة بالصواريخ والمسيرات، دعمها لوكلائها، أو تدخلاتها فى شئون جيرانها.
بينما تنخرط فى المفاوضات الحالية، بقدرات نووية بالغة التطور، تواجه إيران تحديات وضغوطا تكبل موقفها التفاوضى. لعل أبرزها: أولا، تآكل قدرتها الردعية وتعرضها للانكشاف الاستراتيجى، إثر تراجع نفوذها الإقليمى، وانكسار «محور المقاومة» منذ أكتوبر 2023، وصولا إلى سقوط نظام الأسد. بالتزامن مع تكثيف الضغوط الأمريكية على الحوثيين فى عقبها. وفى أكتوبر الماضى، ردت إسرائيل على هجوم صاروخى إيرانى، بتدمير دفاعات جوية، مصانع وقود الصواريخ، ومنشأة «بارشين» النووية الإيرانية. ولم تسلم إيران من اختراقات استخباراتية مفجعة، تجلت فى اغتيال علماء نوويين بارزين، رئيسها، إبراهيم رئيسى، ووزير خارجيته، ثم رئيس المكتب السياسى لـ«حماس» إسماعيل هنية.
ثانيا، الوضع الاقتصادى المتهرئ، جراء تجدد العقوبات الغربية، انحسار الصادرات النفطية، بموازاة استشراء الفساد وسوء الإدارة. حيث تجاوز التضخم 40%، وفقدت العملة المحلية أكثر من 60% من قيمتها، مما اضطر الرئيس بزشكيان إلى توسل الاستثمارات الأجنبية، بما فيها الأمريكية.
ثالثا: صعوبة الرهان على أصدقاء إيران الكبار، فعلاوة على استبعاد واشنطن كل من روسيا والصين من المفاوضات الحالية، تؤثر الدولتان تجنب تصعيد التوترات مع واشنطن بسبب إيران. حيث تفضل روسيا المنشغلة بحربها فى أوكرانيا، تلافى إغضاب واشنطن ابتغاء مرضاة طهران. وكذلك الحال بالنسبة للصين، التى لم تتورع عن مجاراة ترامب فى حربه التجارية حامية الوطيس.
رابعًا: التفاوض تحت الضغط: فاقتصاديا، تتوجس إيران خيفة من احتمالية تجديد العقوبات الغربية عليها. إذ تضمن الاتفاق النووى لعام 2015 آلية تسمح بذلك مع نهاية يونيو القادم، ما لم يتم إدراك اتفاق جديد قبل انقضاء الاتفاق السابق يوم 18 أكتوبر المقبل. فحينئذ، يجوز للترويكا المتمثلة فى: بريطانيا ألمانيا وفرنسا، إعادة فرض العقوبات. ومنذ فبراير الماضى، استأنف ترامب حملة «الضغوط القصوى» على إيران، لتصفير صادراتها النفطية. وقبل ساعات من انطلاق جولة المفاوضات الأولى، فرض عقوبات تستهدف تتبع «أسطول الظل» الإيرانى، الذى يتحايل على العقوبات لبيع النفط، عبر شبكة من السفن، شركات الشحن والوسطاء. وتوخيا منه لتجفيف منابع الدعم المالى لطهران، أنهى ترامب الإعفاء الذى يتيح للعراق استيراد الكهرباء منها.
عسكريا: عمد ترامب إلى تجاوز سياسة «المسار المزدوج» إزاء البرنامج النووى الإيرانى، والتى تجمع بين المفاوضات والعقوبات. ومن ثم، هدد باستهدافه عسكريا، إذا لم يتم التوصل إلى اتفاق صارم، يمنعه من إنتاج السلاح النووى للأبد. بالتزامن، كثف البنتاجون تمركز أصول عسكرية أمريكية بالمنطقة، عبر إرسال قاذفات استراتيجية من طراز «بى2»، و«بى 52» وحاملتى طائرات. وأكد ترامب أن إسرائيل التى تلح منذ زمن فى توجيه ضربه إجهاضية لبرنامج إيران النووى، قد تقود هذا الأمر فى غضون أسابيع.
رغم مواطن الضعف المتنوعة، التى تكتنف موقفها التفاوضى، تخوض إيران المباحثات الحالية بعدما قطعت شوطا جبارا فى تطوير برامجها النووية، الصاروخية، والمسيرات، منذ العام 2018. حتى أكدت الوكالة الدولية للطاقة الذرية وأوساط استخباراتية أمريكية، استفحال خطر برنامجها النووى، مع تنامى رغبة الإيرانيين فى عسكرته، بالتزامن مع انكماش «زمن الاختراق» المتوقع لإنتاجه السلاح النووى. فبعدما تمكنت من تطوير أجهزة طردها المركزى إلى مستويات فائقة، أتاحت لها رفع مخزونها من اليورانيوم المخصب إلى ثمانية أطنان، واليورانيوم عالى التخصيب إلى 300 كجم، تؤكد معظم التقديرات، جهوزيتها لإنتاج ست قنابل نووية خلال بضعة أشهر، لتصبح القوة النووية العاشرة عالميا. خصوصا بعدما قرَبتها طفرتها فى تطوير الصواريخ الباليستية والفرط صوتية، القادرة على حمل رءوس نووية، من إكمال منظومتها النووية. وبينما يعتبر خامنئى برنامج بلاده النووى ورقة تفاوضية إزاء الغرب، تتوالى المطالبات المحلية بجعلها قوة نووية. خصوصا بعد فقدانها قدراتها الردعية، إثر سقوط شبكة حلفائها ووكلائها فى المنطقة، وتهديد واشنطن وتل أبيب بمهاجمتها.
بخصوص تجديد العقوبات الدولية على طهران، سيتعذر على واشنطن، التى تجاهلت التنسيق مع الدول الأوروبية بشأن المفاوضات الحالية، تفعيل آلية إعادة فرضها، عبر مجلس الأمن الدولى، بعد انسحابها من اتفاق عام 2015. فدون سواها، أضحت «الترويكا الأوروبية»، مخولة بتفعيل آلية «سناب باك»، إلى حين انقضاء الاتفاق فى أكتوبر القادم. أما عن الخيار العسكرى الأمريكى - الإسرائيلى، فيستبعد تقويم استخباراتى أمريكى، نجاحه فى إنهاء البرنامج النووى الإيرانى بصورة كاملة ومؤكدة. فعلاوة على تحصين جل منشآته، لدى طهران نخبة من الخبراء النوويين المؤهلين لإحيائه بعد تأثره مرحليا لبضعة أشهر. ورغم انكسار محور المقاومة، ما زال بوسع إيران استخدام صواريخها، مسيراتها، الحوثيين وجماعات موالية لها بالعراق، فى رد انتقامى، يطال إسرائيل، القوات والمصالح الأمريكية بالمنطقة، تعطيل الملاحة، تهديد البنية التحتية النفطية فى الخليج، ما سيربك أمن الطاقة العالمى.
ربما يتمخض تفعيل الخيار العسكرى ضد إيران عن دفعها لتبنى المسار الكورى الشمالى. وهنالك، سيتكرر الخطأ الأمريكى بدفع دولة عضو بمعاهدة حظر الانتشار النووى، للتمرد والانخراط فى عسكرة برنامجها النووى السلمى. حيث سيغدو الاتفاق النووى لعام 2015 بين إيران والسداسية الدولية، عديم الجدوى؛ كمثل اتفاق عام 1994 بين واشنطن وبيونج يانج، للحد من طموحاتها النووية، مقابل تطبيع العلاقات معها، وتزويدها باحتياجاتها الطاقوية. وفى مسعى منها لمواجهة تهديدات واشنطن، وقتذاك، هرعت بيونج يانج لالتماس الردع، عبر إنتاج السلاح النووى. فعلى وقع فشل مفاوضاتها النووية السداسية، أقدمت عام 2003، على طرد المفتشين الدوليين، التخارج من معاهدة حظر الانتشار النووى، وإجراء أول اختبار لقنبلتها النووية الأولى عام 2006، ثم الهيدروجينية، التى تفوقها بمراحل فى الخطورة والأثر التدميرى، عام 2015. أما إيران، فقد ردت على التهديدات الأمريكية الإسرائيلية بمهاجمتها، وإغواء إسرائيل «الترويكا» الأوروبية لتفعيل «آلية الزناد» لإعادة فرض العقوبات عليها؛ عبر التلويح بمراجعة عقيدتها النووية، تمهيدا لإنتاج السلاح النووى، لتأمين نفسها؛ حسبما أعلن، على لاريجانى، مستشار المرشد. فيما طالب خامنئى كبار قادته العسكريين بتعزيز الاستعدادات العسكرية القصوى والشاملة، تحسبا لأى عدوان خارجى.
هكذا إذن، ترفض إيران التفاوض تحت الضغط، كما وضعت خطوطا حمر، تتمثل فى: رفض التخلى عن حقها فى مواصلة تخصيب اليورانيوم، والتصدى لمقترح نتنياهو الذى تبناه ترامب والمعروف بـ«الحل الليبى». بمعنى تفكيك المنشآت النووية الإيرانية، كافة، بإشراف أمريكى، أسوة بما جرى فى ليبيا عام 2003. عندما قررالقذافى التخلى التام والطوعى عن برنامج بلاده النووى، مقابل وعود برفع العقوبات عنها وتحسين علاقاتها مع الغرب. فبحكم عضويتها فى معاهدة حظر الانتشار النووى لعام 1968، يحق لإيران امتلاك برنامج نووى سلمى. بل وتلقى الدعم التقنى الكفيل بتطويره، من الدول النووية الخمس، والوكالة الدولية للطاقة الذرية. ويخشى الإيرانيون من مخططات أمريكية -إسرائيلية لإضعاف بلادهم أو إسقاطها. إذ يعتبرون أن تخلى ليبيا عن قدراتها النووية، هو ما عرضها للتدخل الدولى وإطاحة نظامها؛ فيما عجل تفريط أوكرانيا فى ترسانتها النووية بالهجوم الروسى عليها. كذلك، تأبى طهران إلا حصر المفاوضات فى برنامجها النووى، دون التعرض لبرامج الصواريخ الباليستية، المسيرات، وكلائها، وسياساتها الإقليمية. وهى المرتكزات، التى ترتكز عليها استراتيجيتها الردعية؛ كونها تعوضها عن ضعف قواتها الجوية، وتقادم قدراتها التسليحية، بجريرة العقوبات القاسية والمزمنة.