كورونا.. الأبعاد الجيواستراتيجية لتنافس اللقاحات
وليد محمود عبد الناصر
آخر تحديث:
الجمعة 21 مايو 2021 - 10:10 م
بتوقيت القاهرة
مازال وباء «كورونا المستجد» المعروف بـ «كوفيد 19» يستحوذ على الاهتمام الرئيسى للعالم، رغم امتلاء الكون بالحروب والصراعات واستمرار وتيرة العلاقات الدولية المتسارعة بما تشهده من مشكلات وتحديات، لا شك أن البعض منها بات من الواضح ارتباطه بالوباء وتداعياته، حتى ولو كان وجودها سابقا عليه، مثل الأزمة الاقتصادية وتصاعد معدلات البطالة بل وتغير المناخ وغيره، والبعض الآخر مستقل عنها إلى حد بعيد. كما أن التباينات والخلافات، سواء داخل البلد الواحد أو الإقليم أو شبه الإقليم الواحد أو على صعيد النظام الدولى، لا تزال مستعرة بشأن أوجه عديدة من أوجه التعامل مع الوباء ونتائج استمراره. كذلك فإن المسائل التى تولدت عن الوباء واستمراره وتأثيراته تزداد بمرور الوقت وما هو موجود منها لا يجد طريقه بالضرورة للحل وإنما يضاف إليه بشكل متواصل المزيد والجديد.
وربما من أهم تلك المسائل التى طرأت خلال الأشهر القليلة الماضية على موضوع وباء «كوفيد 19» هو موضوع اللقاحات التى تم إنتاجها على مستوى العالم والتى قدمت الوعد والأمل لمن يتسلح بها بالحماية من الإصابة بالفيروس، أو على أقل تقدير تخفيف أعراض تلك الإصابة، وعدم التعرض لما يؤدى إليه ذلك من أخطار محدقة بصحة البشر، ومن ثم بالأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمجتمعات الإنسانية فى عالمنا الراهن. وانتقل الأمر من مرحلة الإنتاج إلى مرحلة شراء البلدان لتلك اللقاحات والقيام بحملات وطنية لتطعيم مواطنيها والمقيمين على أراضيها، وإن تفاوتت بالطبع كفاءة تلك الحملات ما بين دول العالم طبقا لعدد من المعايير، لا تقتصر فقط على درجة التقدم الاقتصادى والعلمى والتقنى للدولة، ولكنها تشمل أيضا مدى وجود نظم صحية وطنية فعالة وذات كفاءة ومصداقية ولها طابع مؤسسى فى هذه الدولة أو تلك، وكذلك طبيعة منظومة القيم الثقافية الموجودة فى المجتمع على مستوى المواطن العادى من جهة والنخبة من جهة أخرى، خاصة حالة قيم الانضباط والالتزام بالصالح العام ومراعاة الآخرين واحترام قيمة كل إنسان فى حد ذاته، وهى بالمناسبة قيم مجتمعية ليس لها صلة بالضرورة بكفاءة مؤسسات الرعاية الصحية بالدولة، وإن كانت بالتأكيد متصلة بمنظومة الإعلام بأنواعه المختلفة فى الدولة، وكذلك بدور المؤسسات المنوط بها القيام بواجب التوعية، ومنها على سبيل المثال لا الحصر الأحزاب والنقابات الفئوية ومنظمات المرأة والشباب والجهات المعنية بالطفولة والمؤسسات الدينية ومراكز الخدمة الاجتماعية والمؤسسات الثقافية، ومنها المكتبات العامة، وغيرها من مؤسسات ذات صلة.
وبينما كانت توقعات البعض، أو ربما تمنياتهم وتطلعاتهم، تصبو إلى أن يكون توصل العلماء عبر العالم إلى عدد من اللقاحات الصالحة لتحصين البشر ضد أخطار الفيروس اللعين سيكون مفتاح انفراج الأزمات التى نتجت عن انتشار الوباء وتشعبه واختراقه لجميع المجتمعات الإنسانية، فإن ما تحقق على أرض الواقع كان أن التوصل إلى تلك اللقاحات، ومن جانب أكثر من شركة عالمية لإنتاج الأمصال من دول مختلفة، كان بداية لمنعطف جديد من الاختلافات فيما بين الدول، ولكنها هذه المرة تباينات متصلة بفيروس كورونا وإلى حد ما ناتجة عنه، ومرتبطة بمسألة اتخاذ القرارات الخاصة بالسماح بدخول أى لقاح تحديدا من الخارج وكذلك بنسب استخدام كل لقاح وطنيا، وذلك فى حالة تعدد اللقاحات المسموح باستيرادها، حيث إن عملية اتخاذ تلك القرارات، خاصة فى الدول الرئيسية فى النظام العالمى، بات من الواضح أنها تخضع، بالإضافة بالطبع إلى الاعتبارات العلمية والبحثية المرتبطة باللقاح ذاته، إلى اعتبارات يمكن أن نطلق عليها تعبير «قيمية»، بل وذهب البعض إلى وصفها باعتبارات أيديولوجية أحيانا وجيواستراتيجية أحيانا أخرى.
وكان أحد مظاهر تجدد الخلافات الدولية بشأن وباء كورونا هو التراشق فيما بين الدول المختلفة بشأن التعامل مع اللقاحات المتاحة، وذلك فى أعقاب انتهاء مراحل اكتشاف تلك اللقاحات والتجارب المعملية التى أجريت عليها بدءًا باستخدام حيوانات تجارب ثم التطبيق على عينات بشرية مختارة تبدأ بأعداد أصغر ثم تزداد اتساعا، ومن بعد ذلك التحول إلى إنتاج اللقاحات على صعيد واسع، ومن ثم الانتقال إلى تسويق اللقاحات تجاريا وتصديرها من مواقع إنتاجها إلى بلدان أخرى عبر العالم تود استيرادها واستخدامها فى تحصين مواطنيها والمقيمين على أراضيها ضد هذا الوباء اللعين. وقد أخذ هذا الجدل فى بداياته، بل واستمر لفترة، تغلب عليه لغة مقارعة الحجة بمثلها عبر استخدام مصطلحات علمية متخصصة من جهة النقاش حول مدى فعالية اللقاحات المختلفة فى إكساب من يحصل عليها من البشر على المناعة اللازمة بما يكفل حمايته من الإصابة بالفيروس، وكذلك من جهة تناول الآثار الجانبية لتلك اللقاحات، سواء على المدى القصير أو المتوسط أو البعيد، وفى وسط هذا النقاش يتم عقد المقارنات والمفاضلة فيما بين اللقاحات المتاحة المختلفة، وذلك بهدف بلورة التوصيات للجهات صاحبة القرار فى مختلف بلدان العالم بشأن خياراتها المتعلقة بشراء واستيراد واستخدام أياَ منها طبقا لعدد من المعايير منها مدى كفاءة وفعالية اللقاح، ولكن أيضا تكلفته الاقتصادية، وكذلك آثاره الجانبية، وغير ذلك من اعتبارات.
وبالطبع، وكما كان متوقعا، دخلت على الخط اعتبارات تجارية، تعتبر عرفا معتادا فى مثل تلك الظروف، تتصل بالتنافس بين الشركات المختلفة المنتجة والمسوقة للقاحات، وما ارتبط بذلك من سعى كل شركة لتعبئة جميع أشكال الدعم والمساندة من حكومة وسلطات بلدها للحصول على نصيب وافر فى الأسواق الخارجية، سواء الإقليمية أو الدولية، بالإضافة إلى السوق المحلية بالطبع، أو على الأقل لتوفير الضمانات الخاصة بإيجاد بيئة صالحة للمنافسة الشريفة وظروفها بينها وبين الشركات الأخرى التى أنتجت لقاحات للتطعيم ضد نفس الفيروز، كما سعت تلك الشركات لضمان سرعة مثل هذا التحرك قبل أن يزيد عدد الشركات المنتجة للقاحات منافسة. وباعتبار أن للشركات الاقتصادية الكبرى علاقة قوية بالسلطات فى بلدانها فى المجتمعات الرأسمالية ذات النظام الديمقراطى الليبرالى فإن توظيف هذه العلاقات يتم لغرض تعزيز المكاسب الاقتصادية، من منطلق أن ما يقع ضمن دائرة مصالح تلك الشركات هو بالضرورة مصلحة وطنية للدولة باعتبار أن تلك الشركات توظف أعدادًا كبيرة من العمالة وتدفع مبالغ ضخمة من الضرائب، وكذلك فى البلدان التى لا توجد بها تلك الأنظمة فإن الشركات والمؤسسات الكبرى تكون جزءًا من المنظومة الاقتصادية للدولة، ومن ثم فهناك أيضا تتحرك السلطات لدعمها فى الداخل والخارج فى سياق تحقيق المصالح الوطنية.
إلا أن الأمور اكتسبت ابعادا أكثر أهمية ودلالة نتيجة إحياء حساسيات ومرارات فيما بين الدول ايضا، بالإضافة إلى التنافس التجارى المذكور فيما سبق، وبعضها أحيا حساسيات تعتبر من إرث زمن الحرب الباردة، سواء فى أوروبا أو فى آسيا، وبعضها الآخر عاد وضرب بجذوره فى أعماق التاريخ أبعد من ذلك: إلى حقب التنافس الاستعمارى فيما بين قوى أوروبية متعددة على السيطرة على أسواق العالم وتجارته، كما أحيت تلك المرحلة من التنافس أوجه قلق من نزعة بعض الأشخاص المنتمين لبعض العرقيات للتقليل من قدرات وإمكانيات أبناء عرقيات أخرى من منطلق معايير غير موضوعية أو علمية وتقترب من اعتبارات التعالى العنصرى على «الآخر» وصولا إلى نتيجة مؤداها أن ما ينتجه هذا الآخر هو الأقل كفاءة والأضعف ضمانا، ولكن هناك أيضا من يرجع التقليل من القدرات والإمكانيات لدى «الآخر» إلى اختلاف المنظومة القيمية السائدة بشكل جذرى، ومن ثم عدم توافر قيم الشفافية، بما فيها الشفافية فى البحث العلمى، من جهة، والقدرة على المحاسبة من جهة ثانية، وسيادة القانون والمساواة أمامه من جهة ثالثة، أو على الأقل توافرها بمقدار أقل من المعايير العالمية المتفق عليها وليس على نحو كافٍ أو مرضٍ.