اقتلاع البراعم فى ربيع يتجدد
جميل مطر
آخر تحديث:
الخميس 21 يونيو 2012 - 8:30 ص
بتوقيت القاهرة
وصل الضيف الأجنبى إلى المطعم متأخرا ومتأففا، فالطرق مزدحمة بالسيارات والجو قائظ. طلب زجاجة مياه باردة أفرغها فى جوفه وعاد يطلب زجاجة أخرى. جلستُ أمامه مشفقا ويبدو أنه لمح على وجهى شبح ابتسامة وقال: أرى ابتسامة ساخرة، فيم تفكر؟
ترددت قبل أن أجيب، وعندما أجبت اكتشف فى الإجابة محاولة هروب. كان نبيلا فلم يلح. وما كنت لأجيب إن ألح. ففى الدقائق التى استغرقها فى شرب الماء تملكنى بقوة شعور مهانة كان الظن أننى كمصرى تخلصت منه إلى غير رجعة. تذكرت الإعلان المشبوه والشرير على القنوات الفضائية يدعو المصريين إلى أخذ الحيطة عند التعامل مع الأجانب ويحذرهم من مغبة التحدث معهم. عادت ذاكرتى إلى سنوات خلت عندما كنت أعمل بالدبلوماسية المصرية ممثلا لبلادى لدى الأجانب ونائبا عنها فى التفاوض معهم.
كان هناك فى الدولة المصرية، داخل وزارة الخارجية وخارجها من يحذرنا، نحن شباب الدبلوماسية من التخاطب مع الدبلوماسيين الأجانب المعتمدين فى القاهرة. خطرت لى وأنا أتذكر تلك الأيام فكرة أحبطتنى لثوان. يبدو أننا عائدون ليس، كما تردد الصحف وصناع الرأى، إلى المربع رقم واحد فى هذه الثورة، وانما ذاهبون إلى خارج لوحة المربعات بأسرها، إلى لوحة كنا نعتقد أنها رحلت مع حكام رحلوا أو دفنت مع تراث استبداد عقيم.
●●●
أفقت على ضيفى، الصحفى الأوروبى الشهير، وهو يحكى عن أمور شاهدها فى مصر فى هذه الزيارة أثارت قلقه، بل أفزعته. واستطرد قائلا، «الخطأ خطئى ولاشك، فأنا منذ وطأت قدماى المطار وأنا أقارن بين هذه الزيارة وزيارتى قبل عام وشهر أو شهرين، كانت مصر فى ذلك الحين كبرعم يتفتح، وكنا نحن وأنتم منبهرين بها ومندهشين لقدر ثقتها بنفسها». وبنظرة تحدٍ وأصبع ممدود أضاف: «أنت نفسك كنت متفائلا بدون قيود أو حدود، وقد سمعت بأذنى فى عواصم عربية عديدة كلمات منقولة عنك تبشرهم بأنه لا عودة إلى الوراء مهما آلمتنا الأوجاع وأحبطتنا النكسات. ولكنى فى هذه الزيارة أرى مصر وأراك كما لو كانت نظراتى الصحفية الفاحصة تجرحكما، أراك شاحب الوجه شحوب الوجوه التى قابلتها فى شوارع طلعت حرب والتحرير وأنا قادم إليك». أجلت التعليق ووعدته بإجابة وافية بعد أن أسمع إجاباته عن أسئلتى وأكثرها يمس أحوالنا ومصير ثورتنا.. وأولها سؤال عن أوروبا المريضة، حاضرها ومستقبلها.
●●●
قال: تسألنى عن أوروبا؟ أجيبك فى كلمتين، أوروبا انتهت. أوروبا التى عرفناها معا وتابعنا بشغف صعودها من تحت خرائب الحرب ودمارها وجوع الشعوب وفقرها وتشرذم دولها وانقساماتها، إلى مشروع قارة موحدة، بقيادة شبه مركزية فى بروكسل ومؤسسات رشيدة واقتصادات متقدمة ونظام رفاهة اجتماعية كان موضع حسد كيانات أعظم. هذا المشروع ينهار الآن أمام عيون الأوروبيين وهم عاجزون عن وقف انهياره. أوروبا تسقط وأمريكا تقف متفرجة، أو لعلها بالفعل عاجزة هى الأخرى عجز ألمانيا والصين. ومع ذلك لا يتوانى الرئيس الأمريكى بين الحين والآخر عن تقديم النصح للدول السائرة على منحدر الإفلاس والضغط على الدول الأغنى مثل ألمانيا، ولا شىء يتصدر اهتماماته فى الحقيقة سوى تأثير استمرار أزمة «منطقة اليورو» على شعبيته وشعبية الحزب الديمقراطى فى انتخابات الرئاسة فى نوفمبر القادم.
اتفقنا، ضيفى وأنا، على أن مسئولية السقوط الأوروبى تتحملها دول القارة وأمريكا أيضا وكل دول العالم النامى التى سمحت لنفسها أن تنقاد كالخراف وراء سراب صنعته قوى مصرفية تحت اسم «الثورة المالية» لينقض عليها فى النهاية وحش رهيب ارتدى ثياب الرأسمالية المفرطة. بالأمس فقط خرج باروسو، رئيس المفوضية الأوروبية، يعلن أمام عشرين رئيس دولة فى قمة لوس كابوس بالمكسيك، أن أمريكا مسئولة بالدرجة الأولى عن أزمات أوروبا الاقتصادية، فيرد أكاديميون وإعلاميون أمريكيون بأن أوروبا هى المسئولة بالدرجة الأولى لأنها لم تتخلص بعد من أمراضها الخبيثة وبخاصة داء القومية وداء السيادة الوطنية.
●●●
يبالغ ضيفى حين يقول إن أوروبا انتهت. يعرف، كما أعرف، أن الفكرة «الأوروبية» لدى الفرد العادى فى إيطاليا وإسبانيا وألمانيا وفرنسا أصبحت حقيقة راسخة. لا أتصور يوما يأتى يتخلى فيه الأوروبيون عن هذه العقيدة أو الهوية الجديدة. لا يكفى أنهم جربوها واختبروها لعقود ثلاثة أو أربعة ليقرروا أنها ناجحة أو فاشلة. المؤكد فى نظرى، أن التجربة كعمل تكاملى وعلى طريق الوحدة حقق إنجازا لا يمكن إنكاره ولا نزال فى أوطاننا العربية نحلم بأن نحقق بعضا منه. أما التطورات السلبية الراهنة فسببها الرئيس هو أن نظاما اقتصاديا عالميا اقتبسته «أوروبا الموحدة» من الولايات المتحدة، دمر بوحشيته صروح بنى اقتصادية واجتماعية كانت قائمة فى أوروبا قبل اقتباسها هذا النموذج، ويكاد يدمر الآن عقيدة الأوروبيين وهويتهم وشعورهم بالانتماء إلى «أوروبا»، التى عملوا طويلا لتكون مختلفة عن أوروبا القوميات والصراعات والحروب، ومختلفة عن أمريكا.
●●●
أوروبا، الفكرة والانتماء، لم تنته. وبالمنطق نفسه، لم ينته العرب. أسمع كثيرا، ومن ضيفى أيضا فى هذا اللقاء، تحليلات عن الربيع الذى عصفوا به فى ليبيا واليمن وسوريا، وها هم يحاولون اقتلاعه من جذوره حتى لا يظهر فى مكان أو زمان آخر. يريدون أن يسقط تماما من حسابات الفصول والسنين. أسمع.. ومن ضيفى أيضا، عن البحرين والسودان وتونس كدلائل على ثورات أجهضت أو أحبطت وعلى أمة غير قابلة للتقدم وغير مؤهلة للحرية. أمة تحبو ولا تقوى على النهوض دون مساعدة من قادة عسكر أوشيوخ وعلماء دين.
لم تسقط ثورة مصر، ولم تنته ليبيا وتونس وسوريا واليمن والعراق، كما برعم قطفنا فلم يتفتح زهرة ولكن نبت محله برعم جديد وسوف تنبت براعم أخرى عديدة، وستتفتح رغم الأنواء والجشع والاستعجال، ورغم زحف العجول والوحوش، ورغم الضغوط الخارجية، وهذه قضى ضيفى وقتا غى قصير يركز عليها.
●●●
هل ننتبه لحريات الشعب وحقوقه وتطلعاته الديمقراطية وننسى أن جميع حدودنا تكاد تكون ملتهبة، أو قريبة من مواقع وأسباب الالتهاب؟ فى ليبيا سلاح يتراكم فى انتظار من يشعل به فتنة أخرى أو حربا أهلية أو ينقله إلى مصر والجزائر ودول الساحل الأفريقى. وفى سوريا نظام وخصوم، بعضهم وطنى ومحلى وبعضهم مستورد ومسترزق، أقسموا جميعا ألا يتركوا سوريا إلا وهى حطام وما يحيط بها يحرق بسببها. وعلى حدودنا الشرقية صواريخ يطلقها مسلحون فى غزة لا تؤذى أحدا فى إسرائيل وصواريخ يطلقها الإسرائيليون تقتل وتدمر بحساب أو بغير حساب وتعبر الحدود إلى مصر فتصيب وتخرب وتتحدى. وفى شرق وغرب ووسط أفريقيا وجنوب اليمن تتجمع أسراب من طائرات بدون طيار ضمن خطة وضعتها القيادة العسكرية الأمريكية لأفريقيا Africom لشن سلسلة حروب، أهدافها حتى الآن مثل غيرها تبدأ بمطاردة الإرهاب وتنتهى بالسيطرة على مصادر المادة الخام والمياه، وتمهد لساحة تستقر فيها قوات أمريكا والأطلسى العائدة من أفغانستان بعد عام ونصف العام.
ليس خافيا أن خطة عسكرية أمريكية لأفريقيا لابد أن تضع فى اعتبارها تخصيص دور مركزى للقوات المسلحة المصرية، التى استبعدت فى مراحل سابقة من المشاركة فى أنشطة القيادة الأمريكية لأفريقيا عندما كانت فى شتوتجارت بألمانيا ويعاد النظر فى أمر مشاركتها بإدماجها الآن. بمعنى آخر وبوضوح أشد، تبدو الاستراتيجية الأمريكية فى حاجة ماسة أكثر من أى وقت مضى إلى تفرغ المؤسسة العسكرية المصرية لممارسة أدوار إقليمية فى أفريقيا، فور ان تستقر الأوضاع على حدود مصر الآسيوية وفى مصر الداخل وكلها أوضاع مترابطة. يبقى السؤال الباحث عن إجابة عاجلة: هل يكون فى مصلحة مصر أن يجمع جيشها بين أداء دور الشرطى الإقليمى وأداء دور الشرطى والسياسى فى الداخل؟
●●●
غادر الضيف الأجنبى بعد وجبة كانت فى حد ذاتها شاهدا على تدهور حال السياحة فى مصر، لم يعوضها سوى ذكاء الضيف ومعلوماته الغزيرة وتصوراته العميقة عن مستقبل أوروبا ومستقبل العالم العربى ومصر بوجه خاص.