«حاضرنا» الذى نعيش فيه!
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 21 يونيو 2025 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
(1)
كنت أخطط لكتابة سلسلة من المقالات حول موضوع «الشخصية القومية»، والمنظورات المتعددة والمتباينة التى عالجت هذه القضية، خصوصًا فى الوقت الذى تحتد فيه النقاشات ويشتعل الجدل بين أصحاب كل تصور لهذه «الشخصية» أو تلك أو دفاعا عن هذه الهوية «المتخيلة» أو غيرها.
وكانت المناسبة التى حدَت بى لاختيار هذا الموضوع قرب افتتاح المتحف المصرى الكبير الذى كان من المنتظر افتتاحه فى احتفال عالمى كبير فى الأيام الأولى من شهر يوليو القادم؛ لولا العدوان الإسرائيلى الهمجى على إيران؛ وضرباتها العنيفة على العاصمة طهران، ثم جاء الرد الإيرانى الصاروخى على مدى الأسبوع الفائت.
وهكذا جاءت الحرب الإيرانية الإسرائيلية لتطيح بكل تخطيط سابق، وتؤجل افتتاح المتحف إلى الربع الأخير من العام الجارى (وهو قرار صائب تمامًا فيما أرى) رغم ما رآه البعض عكس ذلك. لكنى أرى صواب هذا القرار، وأرى أيضًا أنه أتاح مهلة زمنية كافية لمزيدٍ من الاستعداد والتحضر لهذا الحدث الكبير الذى يمثل الحلقة الثالثة من حلقات ما أسميه إعادة الاعتبار للحضارة المصرية القديمة، ولتاريخنا المصرى القديم، وبعيدًا عن أى دعوات شوفينية أو عنصرية تختزل الهوية المصرية فى بعدها الفرعوني، وتعليه على ما عداه، فهذا مما يأباه المنطق والتاريخ والعقل، وأيضًا بغض النظر عن الدعوات المضادة التى تحقِّر من الحضارة المصرية القديمة وتقلل من شأنها، وتظهر دعايات سخيفة ورخيصة بلا جدوى هذه الحضارة وهذا التاريخ وبالتالى، جدوى الانتماء إليها.
هذا باختصار الإطار العام للأجواء التى كانت تحيط بحدث افتتاح المتحف المصرى الكبير قبل أسابيع من الاحتفال بافتتاحه رسميا، ثم جاءت الظروف التى أطاحت بهذا التوقيت، وأرجأته إلى نهاية العام.
(2)
لكن الجدل ما زال مشتعلا وعلى أشده بين ما يرون الدفاع عن الانتماء المصرى القديم (الفرعونية) وبين من يهاجمونها بدعاية مضادة تقوم على اختزال مصر منذ دخلها العرب والمسلمون فى القرن السابع الميلادى، وحتى وقتنا هذا.
وبالجملة، فهذا الجدل وهذا الصراع قديم يعود إلى جوهر القضايا الفكرية والثقافية التى ارتبطت بالنهضة الحديثة منذ عصر محمد على، وحتى الثلث الأول من القرن العشرين. ثار الموضوع وتكرر، ويتكرر، وسيتكرر خاصة فى لحظات الاضطراب والتحولات العاصفة والسيولة الرقمية والنظام العالمى الذى يتداعى ولا أحد يعلم كيف يتشكل نظام عالمى جديد، وما ملامحه ولا تصوراته فى ظل هذه الفوضى العارمة والاضطراب الشاملة فى حقبة ترامب العجيبة العاصفة العشوائية!
(3)
فى وسط كل هذا الركام؛ وأنا أعيد قراءة أهم ما كتب فى موضوع الشخصية القومية، والبحث عن الهوية، ومراجعة «أدبيات» هذا الموضوع منذ صدر كتاب صبحى وحيدة الخطير «فى أصول المسألة المصرية» عام 1950، وحتى صدور كتاب «الهوية المصرية الأبعاد والتحولات» الصادر عن المجلس الأعلى للثقافة قبل سنوات قليلة، وجدتنى أتوقف عند نص مذهل للمفكر وأستاذ الفلسفة الراحل الدكتور فؤاد زكريا أحد رواد الفلسفة العقلانية، والتفكير العلمى فى الثقافة العربية فى القرن العشرين. يلخص فيه ــ باقتدار وأستاذية ــ عبثيةَ وخطل هذا الصراع والسجال والتنابذ العقيم؛ يقول:
«إن الأمر المؤكد أن لكل أمة الحقَّ ــ كل الحق ــ فى أن تتغنَّى بماضيها وتمجده، ولكن التشبث المريض بهذا الماضى ليس له إلا معنى واحد، هو العجز عن السيطرة على الحاضر أو عدم الرضا عنه، وفى اعتقادى أن الأمة التى تتحكم فى حاضرها وتُمسِك بزمامه، وتسيطر عليه، وتدير دَفته فى الاتجاه الذى يحقق لها أمانيها، لا تحتاج إلى كل هذا القدر من التغنى بالماضى واجترار أمجاد الأسلاف..
ولو تأملنا مقدار الجهد الذهنى الذى بُذِلَ، والطاقات النفسية والعصبية التى أُنفِقَت فى المعركة التقليدية بين أنصار الأصل الفرعونى، وأنصار الأصل العربى الإسلامى؛ لبدا لنا المعنى الذى نرمى إلى إثباته واضحًا وضحَ النهار؛ إذ إن هذه المعركة كان يمكن أن تُحسَمَ لو أن كلًّا من الفريقين المتنازعين خاطب الآخر بتلك العبارة البسيطة المعقولة الحكيمة، كفانا تناحرًا على الماضى يا سادة، ولنتذكر قليلًا حاضرنا الذى نعيش فيه!..
(الدكتور فؤاد زكريا فى مقاله القيم «شخصيتنا القومية والنقد الذاتى» فى مجلة الفكر المعاصر، أبريل 1969).
(4)
وكأن الدكتور فؤاد زكريا يحيا بين ظهرانينا الآن ويشاهد الجدل المثار والعاصف والمشتعل على السوشيال ميديا بين الفريقين اللذين حددهما بدقة فى نصه السابق، وكأنه يسخر ويتهكم على العبث الذى يجعل معركة حامية الوطيس تنشأ بين فرقتين أو اتجاهين أو تيارين؛ لا أولهما يعى أساسًا ماهية البحث عن الشخصية القومية، ولا مقوماتها، ولا يتعمق معرفة ما يعتقد أنه يدافع عنه فيسىء إليه من حيث لا يدرى!
وأما الفريق الثانى؛ فشأنه شأن الأول بالضبط، يدير الظهر للحاضر والمستقبل لحساب ماض متوهم ومتخيل ولا صلة له الآن بما يدور على الأرض.
(وللحديث بقية).