نشرت صحيفة كل الأردن مقالا للكاتب «لبيب قمحاوى» يقول فيه إن الدافع إلى الكتابة يعود فى العادة لوجود قضية أو فكرة أو معلومة تتطلب العرض أو التحليل ومشاركة الآخرين، سواء بأفكارهم وآرائهم أو بأفعالهم. ولكن عندما تصبح الكتابة هدفا فى حد ذاته، فإنها قد تتحول إلى طاقة تائهة ذات مفعول سلبى فى الغالب، مما قد يبعث على الملل وحتى الرفض من قبل الآخرين.
العديد من القضايا والمشكلات العربية قيد البحث والنقاش والاهتمام العام قد أثبتت قدرة فائقة على البقاء والاستمرار العنيد مثل قضية الاحتلال الصهيونى لفلسطين وقضايا استفحال الفساد وغياب الديموقراطية والاقتتال الأهلى وقضية الإرهاب... الخ. إن الاستمرار فى الكتابة فى هذه المواضيع قد أصبح بالنسبة للبعض أمرا مُستـَهلكا أو مُكـَررا بشكل يبعث على الملل.
ويتساءل الكاتب هل التوقف عن الكتابة هو الحل؟ أم الصمت والانسحاب إلى صفوف الأغلبية الصامتة؟ أم الاستسلام لإرادة القوى وبالتالى التسليم بكل ما يصدر عنه؟
إن العرب ــ كما يرى قمحاوى ــ يفتقرون إلى الحكمة فى أسلوب تعاملهم العام مع مشكلاتهم وقضاياهم العديدة، كونهم يقفزون بينها من قضية لم يتم حلها أو تفكيك عُقـَدِها إلى قضية أخرى مُسْتـَعْصية أو مُسْتـَحدثة! فالعرب فى العادة يَملـّون من قضاياهم المتقادمة ومن فشلهم فى حلها أو فك عُقـَدِها لينتقلوا إلى قضايا أخرى تنتهى أيضا بفشلهم وعجزهم وهكذا دواليك، وإلى الحد الذى تتراكم فيه القضايا وتنمو وتتعقد لتصبح جزءا من الصورة العربية المقيته والواقع العربى السيئ.
لعل قضية فلسطين هى من أهم وأعقد القضايا التى يجابهها العرب. ومع أنه من الصحيح القول مثلا بأن إنشاء دولة إسرائيل على الأرض الفلسطينية كان نتيجة تآمر دولى، إلا أن الأكثر صحة هو الاعتراف بأن انتصارات إسرائيل العسكرية المتعاقبة كانت نتيجة لهزيمة العرب لأنفسهم فى الدرجة الأولى وتآمر حكامهم المتخاذلين. بالتالى يرى الكاتب أن العقدة النفسية العربية تجاه عدم إمكانية إحراز نصر عسكرى على إسرائيل هى عقدة وهمية تتجاهل حقيقة أن انتصارات إسرائيل جاءت نتيجة الضعف العربى أكثر منها نتيجة القوة الإسرائيلية. والاستسلام الطوعى العربى والفلسطينى لِوَهْم السلام مع إسرائيل كحل وحيد فى ظل استفحال وَهْم عدم إمكانية الحل العسكرى، إنما يعكس تدهور الحال العربى العام وانحطاط وضع العرب النفسى وتآكل منظومة القيم الوطنية لديهم وغياب الاستعداد الحقيقى للتضحية بعكس باقى الشعوب الحية. وفى كل الأحوال، علينا الإقرار أيضا بأن شهوة الحكم لدى القيادات الفلسطينية فاقت هدف التحرير مما قضى بالنتيجة على مسيرة الكفاح والنضال الفلسطينى وحَوَّلَ الثورة الفلسطينية إلى رماد كثيف يغطى ذنوب وخطايا وخيانات بعض قادتها .
***
«الأعراب أشد كفرا ونفاقا» جملة لم تأتِ من فراغ. فالعرب ومنهم الأَعراب يفتعلون الأزمات فيما بينهم، وَهُمْ فى العادة أقسى على أنفسهم وأبناء جلدتهم من قسوة الغرباء عليهم. والحروب الأهلية العربية فى لبنان ثم العراق وليبيا وسوريا واليمن مثال على تلك القسوة الدموية. وافتعال الأزمات بين الكيانات العربية لأسباب شخصية أو عشائرية أو قـَبَلية أو ذاتية، وتحويلها إلى قضايا عامة تمس شعوبا وأوطانا بأكملها قد أصبحت ممارسة عربية عادية تعكس تفاقم حالة الانحلال العربى والتدهور فى منظومة القيم وما تـُرَتـّبَهُ الرابطة القومية العربية من التزامات على الشعوب العربية. وما يسمى الآن مثلا بأزمة الخليج والمتمثلة فى الخلاف بين قطر من جهة وأربع دول عربية من جهة أخرى إنما هو مثال مؤلم على ذلك وترجمة لواقع الحال العربى السائد حاليا والذى يسمح لآخرين باستعمال العرب واستغلال خلافاتهم المحلية كمدخل لتنفيذ سياسات إقليمية قادمة من جهات غير عربية، قد تكون لها آثار سلبية أو مُدَمـِّرَة على العالم العربى أو ــ فى أحسن الأحوال ــ على بعض الدول العربية. أمَّا العيب فهو أن تتطور الأمور إلى حد استعانة بعض العرب بقوات أجنبية من تركيا أو إيران أو أمريكا أو روسيا ضد إخوتهم من العرب أو أن تتوسط دولة مثل أمريكا أو روسيا لإصلاح ذات البين بين العرب المتخاصمين دون أى اعتبار للحقيقة المرﱠة أن أمريكا أو روسيا مثلا تعمل فى نهاية المطاف لحماية مصالحها دون أى اعتبار لمصالح الآخرين.
كما يؤكد الكاتب على أن الإرهاب ليس مشكلة عربية أو اختراع إسلامى. فكلاهما، أى العرب والمسلمين، كانا أدوات تم تسخيرها واستعمالها من قبل الآخرين فى سعيهم لتكريس ظاهرة الإرهاب وخطرها على السلم الدولى. والإرهاب فى أصوله اصطلاح غربى مَعْناه مازال غامضا وأبْعَاده مُفـَصَّلـَة تفصيلا على مقاس العرب والمسلمين بهدف ابتزازهم من جهة واستعمالهم كأدوات لتدمير دولهم أو دول عربية أخرى أو بعضهم البعض من جهة ثانية تحت ستار«الحرب على الإرهاب». وبعد أن تم تدمير دول عربية عديدة، يبدو أن الدور الآن على أهم دولتين إسلاميتين فى الإقليم وهما تركيا وإيران حيث تشير العديد من الشواخص إلى نوايا أمريكا والغرب لتقسيم الدولتين المذكورتين وتمزيق وتشتيت الدول الإسلامية الكبيرة بشكل عام وشرذمتها إلى دويلات متنافرة وتشجيع الولاءات المذهبية أو العرقية الفرعية لتسهيل تلك المهمة. هذا ناهيك عما يجرى الآن من محاولات جادة ومستمرة لتمزيق مصر من خلال اختلاق صراع طائفى لا أُسُس حقيقية له ويتم افتعاله من خلال عمليات اجرامية يومية باسم الإسلام ضد المواطنين المصريين المسيحيين.
***
يبقى السؤال الأساس فيما إذا كانت الحرب على الإرهاب هى قضية عسكرية حصرا أم أن لها أوجها عديدة أخرى قد تكون فى نفس أهمية الحل العسكرى، هذا إن لم تفوقه فى تلك الأهمية؟
إن الحل العسكرى هو ما تريده أمريكا والغرب كونه يشكل الأداة والمدخل لتنفيذ مخططاتها. وهذا يفسر لماذا تمتنع الأطراف المنادية بالحرب على الإرهاب، العربية منها وغير العربية، عن التفكير فى أى وسيلة أخرى للتصدى للارهاب ووضع حَدﱠ له واقتصار الأمر على الخيار العسكرى. كما أنه يفسر أيضا لماذا تصر جميع الأطراف المعنية على تجاهل الأسباب الحقيقية المؤدية إلى الإرهاب مثل الفقر والبطالة والظلم والفساد والقهر والاحتلال التى تؤدى إما إلى الغضب والثورة أو إلى اختيار مسار التزمت والعنف والاعتكاف الدينى أو المذهبى. فالهدف من رفع شعار «الحرب على الإرهاب» ليس إصلاح الخلل القائم فى الدول المعنية، بل تدمير تلك الدول وتمزيقها كما يحصل الآن فى العراق وسوريا وليبيا واليمن.
يختتم الكاتب بأن قضايا العرب ومشكلاتهم سواء أكانت من صنع غيرهم أم من صنع أياديهم ما كانت لتحدث لولا أن حكامهم قد رغبوا بذلك وساهموا به والشعوب سمحت لهم بفعل ما يريدون إما خوفا وإما جهلا. والتاريخ سوف يكون قاسيا فى حكمه على العرب لأنهم فـَرَّطوا ــ وما زالوا ــ بأنفسهم وثرواتهم وكرامتهم لارضاء حكامهم بكل نزواتهم وشذوذهم السياسى واستعدادهم للانحناء أمام جبروت ورغبات الأجنبى.
«كل الأردن» ــ الأردن