معارك الساحل
نيفين مسعد
آخر تحديث:
الخميس 21 يوليه 2022 - 7:25 م
بتوقيت القاهرة
زمان قالوا لنا إن علينا أن نختار المعارك التي ندخلها وكانوا يقصدون بذلك أن نبتعد عن الاشتباك مع الموضوعات الصغيرة لأنها غير جديرة بأن نوليها شيئاً من جهدنا واهتمامنا. هذه المقولة تبدو منطقية تمامًا لكن يعيبها أن بعض المعارك الصغيرة تخفي خلفها مواقف مبدئية من قضايا كبيرة، وهذا حال معارك الساحل التي يستدرجنا إليها ذلك الكود الأخلاقي المتفق عليه بين معظم المصطافين، وهذا الكود ملخصه الآتي: كل شيء مباح في الساحل.
• • •
دخل مستأجر شاليه الطابق الأرضي في حماية كلبين ضخمين جدًا من نوع روت ڤايلر، وهو نوع من الكلاب كما فهمت لاحقًا شديد الشراسة ومحرم في بعض الدول لأنه من القوة بحيث يمكن أن يفتك بأسد!!، وهذا يعني أنه ما لم يُسيَطر عليه فإنه يمكن أن يؤدي إلى كارثة. ولذلك نجد أن المشاهير ورجال الأعمال والأشخاص الذين تتعرّض حياتهم للتهديد في العموم يقبلون على تربية الروت ڤايلر. وفيما يخص مستأجر شاليه الطابق الأرضي فلابد أن لديه من الأسباب الخاصة ما يجعله يمشي في حماية كلبين وليس حتى كلب واحد من هذا النوع المفترس ناهيك عن اصطحابهما معه لمدة ثلاثة أيام هي كل مدة الإجازة التي قرر أن يقضيها في الساحل، أما من الناحية الظاهرية فلا يبدو أن مالك الكلبين من مشاهير الناس أو من الأسماء المعروفة بالنسبة لي على الأقل. استقر صاحبنا في الشاليه وربط كلبيه في مرجيحة من البلاستيك في الحديقة، وانشغل بترتيب حاجياته هو وزوجته. قاد الحظ العاثر طبيبة في العقد الخامس من عمرها للمرور أمام الحديقة فما كان من الكلبين إلا أن انطلقا صوبها كالسهم والمرجيحة تركض خلفهما إلى أن تمكنّا من الإفلات منها، ثم جثما فوق الطبيبة المسكينة فلم ينقذها من الموت المحقق إلا نداء صاحبنا على كلبيه بصوت مذعور ليتوقفا، وبالفعل توقّف الكلبان لكن بعد أن كانا قد عقرا الطبيبة ومزقا لها ملابسها وتركاها في حالة هذيان تحت تأثير الصدمة. قرّرت الطبيبة أن تخوض المعركة نيابة عن كل سكان القرية فأبلغت الشرطة وسجّلت ڤيديو عن الواقعة، وتهكّمت على ذلك البك ساكن الشاليه "الصغير" الذي يحتفظ فيه بكلبين شرسين، ولولا هذا التهكّم على حجم الشاليه لامتدحتُ شجاعتها، فوَصْف الشاليه بالصغير لا محّل له من الواقعة، ويوجد فيه نَفَس طبقي غير مريح خاصة وأن لي مثل الساكن في الطابق الأرضي شاليه أيضًا "صغير"!
• • •
على الشواطئ الخاصة أو المدفوعة توجد مصالح وسمسرة وإكراميات وتجارة وأماكن تباع وتُشتَرَى وأشياء أخرى كثيرة، فلا تغرنّك الرمال الذهبية والموج الأزرق والقواقع والطحالب فتحسَب أنها تمثّل الحقيقة الوحيدة، فخلف هذا المشهد الطبيعي البديع توجد حقائق أخرى من صنع البشر. مهما حاوَلت أن تحمل منشفتك وتذهب مبكرًا إلى الشاطئ، أو أول ما يفتح البحر كما كنا نقول أيام زمان للأولاد والآن نقول للأحفاد، فلن تفوز أبدًا بالجلوس في أول صف على البحر مباشرة، فدائمًا هناك مناشف تحجز الشماسي في الصف الأول لأصحاب النصيب. مَن يريد مثلي ألا يعكّر صفو يومه بالسجال مع سماسرة الشاطئ سيقنع بالجلوس في الصف الثاني أو ما بعده، أما الذي تأخذه الجلالة ويتقمّص شخصية أبو العلا البِشري في إحدى روائع أسامة أنور عكاشة فسوف يفعل كما فعل هذا الشاب الرياضي ويخوض معركة الشاطئ حتى النهاية. وصل الشاب وزوجته وطفلاه قبل العاشرة بقليل وتوجهوا إلى إحدى شماسي الصف الأول وكانت عليها منشفة مزركشة، وعلى الفور هرول من خلفهم أحد العاملين ونبههم في أدب إلى أن مدام فلانة حاجزة الشمسية بمنشفتها. أين هي مدام فلانة وليس في البحر أحد؟ إجابة مموهة على السؤال، ومتى حجزَت بالضبط مدام فلانة المكان بينما يفتح الشاطئ أبوابه في العاشرة صباحًا؟ إجابة أخرى مموهة، وهل مدام فلانة لم تضع شيئاً بخلاف منشفتها فلا حقيبة ولا ثوب ولا أثر؟ لا إجابة أصلًا. تطوّر الأمر من نقاش هادئ إلى نقاش حاد، ومن حوار ثنائي إلى حوار اشترك فيه مصطافون وعمّال، ومن منطق حقي ودوري إلى التهديد والوعيد بتصعيد الأمر لمسؤولي الشاطئ لأن هناك شبهة فساد، وأخيرًا وبعد أخذ ورد انتصر الشاب وأسرته وتقدّموا كالفاتحين ليحتلوا موقعهم في الصف الأول بعدما سحب العامل منشفة مدام فلانة التي لا وجود لها أصلًا.
• • •
اعتدنا من سنين في الساحل على تلك الظاهرة السخيفة المسماة بيتش باجي وهي عبارة عن جرارات صغيرة- وهذا هو أنسب وصف لها من وجهة نظري- يقودها أولاد وبنات في العاشرة من عمرهم أو أكبر من ذلك بقليل ويجوبون بها شوارع القرى السياحية في المساء بسرعة وفي الاتجاه المعاكس وفي معظم الأحيان على غير هدى. فشلَت كل الجهود في وقف هذه الظاهرة لأسباب مختلفة، منها أن أصحاب البيتش باجي عادة ما يكونوا من أبناء الواصلين الذين لا يستطيع أحد أن يرَد لهم كلمة، والأهم أن التوك توك المنتشر في كل أنحاء الجمهورية لا يختلف في تركيبته كثيرًا عن تركيبة البيتش باجي فمن غير المنطقي السماح بالأول ومنع الثاني إذا ما وضعنا على جنب دور التوك توك في تسهيل الانتقال للأسر محدودة الدخل، وثالثًا لأن المصيف مثل الانفتاح الاقتصادي في السبعينيات سداح مداح وكل مَن يريد أن يفعل فيه شيئًا يفعله. هكذا تأقلمنا مع هذا الوضع على مضض وقبلناه مرغمين ونحن الذين تربينا على أن الدراجات هي وسيلة الترفيه الوحيدة في المصيف، إلى أن طرأ على هذا الموسم تطور سخيف آخر. انخفض بوضوح سن الصبية الذين يقودون البيتش الباجي حتى لم تعد تميّز رؤوسهم إلا بالكاد، أطفال في الثامنة وربما حتى في السابعة يجرون في كل اتجاه ويمسكون بالمقود وإن كانوا لا يتحكمون فيه كما يجب. عندما اصطدم أحدهم بسيارة هيونداي يقودها رجل أربعيني توقّفت حركة الشارع، ووجد الجالسون على المقاهي المنتشرة في كل مكان انتشار نبات الفطر ما يسليهم… مممم هل هو فعلًا موقف مسلّ؟ الإجابة لا ومع ذلك فإن الموقف لم يكن يخلو من طرافة. سائق السيارة ضخم الجثة يتشاجر مع طفل لا يرتفع كثيرًا عن مستوى الأرض يوبخه ويعنفه تارة ويسّب أسرته التي تركت هذا المفعوص يقود البيتش باجي تارة أخرى. تلفّت الرجل حوله فلم يجد رجل أمن واحد ممن كانت تغص بهم شوارع القرية في المواسم السابقة، فالاستنفار الأمني الأهم على طريق الساحل حيث الكل مش عارف حاجة كما نقرأ أحيانًا على الميكروباصات. وانتهى الأمر نهاية لم يتوقعها أحد إذ رفض الرجل أن يتصل الطفل بأسرته عن طريق الآيفون، وصمّم أن يتقدمه الطفل بالبيتش باجي إلى شاليه الأسرة حتى تكون مفاجأتهم تامة! وعندما تحرّك البيتش باجي بالفعل متبوعًا بالسيارة الهيونداي بدا لنا كأن موكبًا صغيرًا يمّر من أمامنا.
• • •
يحلم الكثيرون منّا بأن يجدوا في المصيف الاسترخاء والاستجمام المنشود، وهذا حلم مشروع بالتأكيد لكنه للأسف مع تطور مفهوم المصيف أصبح حلمًا بعيد المنال.