ثقوب فى الثوب الأبيض
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 21 سبتمبر 2018 - 8:55 م
بتوقيت القاهرة
«نتوقع الموت مع كل جلسة غسيل كلوى» كلمة قاسية بليغة قالها أحد مرضى الفشل الكلوى عبر بها عن مأساة ومعاناة مريض الفشل الكلوى المصرى، وقد ترجمتها مأساة مستشفى ديرب نجم الذى مات فيه ثلاثة مرضى أثناء الغسيل الكلوى لهم، وأصيب 23 منهم تم إنقاذهم بأعجوبة.
هذه الحادثة جزء من مأساة الصحة فى مصر، فمنظومة مستشفيات وزارة الصحة تعانى من فشل ذريع مما يؤدى إلى تكدس وازدحام المرضى على المستشفيات الجامعية التى ينبغى أن تتفرغ لحالات البحث العلمى فقط، لا أن تشغل نفسها بإجراء جراحات الزائدة والختان والفتاق والكسور العادية ونحوها، وكأن المستشفيات الجامعية حلت محل وزارة الصحة المعنية بالأساس بصحة المواطن المصرى.
قال لى يوما مدير أحد مستشفيات الصدر هل تصدق أن المستشفى الذى يخدم محافظة بكاملها لا يملك فيلم أشعة، الآن تم التغلب نسبيا على هذه المشكلة بطريقة فنية.
وأحيانا تبيع مراكز الأشعة بالمستشفيات الصبغة للمراكز الخاصة بأثمان زهيدة وتجبر المريض على شراء الصبغة من الخارج وإيهامه بعدم وجودها، ثم تسجل اسمه فيمن صرفوا الصبغة من المستشفى.
هناك أطباء كبار فى التأمين الصحى لا يجرون جراحات للمرضى فى المستشفى إلا إذا مروا عليهم فى عياداتهم أولا، وبعضهم لا يصرف له العلاج إلا إذا كان من رواد عيادته، وعادة ما تقول الممرضة للمرضى بالمستشفى: إذا أردتم أن يكتب لكم العلاج كاملا فاذهبوا إليه فى عيادته.
قالت لى سيدة فقيرة: ذهبت بابنى الذى يحتاج لهرمون النمو فذهبت إليه فى التأمين فرفض أن يكتب له هرمون النمو فأشارت إليها الممرضة بأن تذهب إلى عيادته وهى تقول لكل مريض مثل هذا القول، وهناك فى العيادة قال إنه يحتاجه فلما رجعت إليه فى التأمين كتبه للطفل.
أما العناية المركزة فهى مأساة المصريين بحق فأهل المريض يذوقون الذل والهوان أياما وأسابيع للبحث عن سرير فى العناية المركزة المجانية فلا يجدوها، وهى أقل بكثير من عدد المرضى الذين يحتاجون إليها، إنه ذل الليل والنهار وعداد أموال العناية المركزة بالمستشفيات الخاصة يحسب عليهم فى اليوم الواحد قرابة خمسة آلاف جنيه على الأقل، ولا تنفع أو تشفع أى واسطة فى ذلك، فسرير العناية محجوز لرئيس القسم ومساعدوه ومن يذهب لعيادتهم ونحو ذلك.
إذا ذهبت إلى معظم بيوت عمال أو ممرضات المستشفيات الحكومية وجدته مكتظا بالشاش والقطن والبيتادين وأدوية أخرى كثيرة هى من حقوق المرضى الفقراء أصلا.
أما عمال المستشفى فلا يتحركوا إلا بالرشوة عادة، فالتروللى المخصص لنقل المرضى يكون بعيدا، ولا يأتى للمريض إلا إذا خرجت الجنيهات العشرة وكذلك الأسانسير والكراسى المتحركة وكذلك كل شىء، أما المريض الذى يحتاج لنقل دم عاجل فالممرضة بالعنبر وفى بنك الدم تتلكأ فى ذلك حتى تخرج لكل واحدة منهم العشرين جنيها أو أكثر أو تكون للمريض واسطة أو معرفة وإلا ضاع.
أما الطعام فهو سيئ عادة وبارد ولا يأكله معظم المرضى وقد تجد عامل أو عاملة المستشفى تذهب إلى بيتها حاملة 50 بيضة وكيلو جبن وعلبة مربى كل يوم.
أما الابتزاز فى المستشفيات فحدث ولا حرج فإذا ولدت سيدة فكل نوبتجية من العمال والعاملات والممرضات فى هذا اليوم تطالب بالحلاوة من المرأة وزوجها وأمها وحماتها وحماها، ولا يتركون أحدا من هؤلاء دون الدفع أو الفضيحة، وكذلك كل من يجرى جراحة.
كان قديما يقال لك «لابد من كوسة أو توصية لك حينما تدخل مستشفى حكومى الآن يقال لك ذلك قبل دخول المستشفيات الخاصة كذلك.
أما الفوضى والسرقات فى المستشفيات الحكومية فحدث ولا حرج فقد تبرع أحد النبلاء المحسنين لأحد مستشفيات التأمين الصحى بكل ما تحتاجه من أسرة جديدة وحديثة وشاشة عرض فى كل غرفة مع إصلاح السباكة والكهرباء، فإذا بشاشات العرض كلها تسرق فى العام الأول ومعها معظم أدوات السباكة ولمبات الكهرباء.
أما سرقة المرضى وخاصة موبايلاتهم وهم فى حالة الإغماء أو الإعياء أو المرض الشديد فحدث ولا حرج رغم التكلفة الباهظة لموظفى الأمن الجدد، الذين أصبح لا هم لأكثرهم سوى الرشوة من الزوار للدخول فى غير المواعيد أو البقاء بعدها.
أما طوابير المرضى فعشوائية وطويلة جدا ولا مظلة لهم من الحر أو البرد والمطر، مع أن نظاما مثل نظام البنوك يدخل المرضى العيادات بالأرقام كفيل بحل المشكلة وتحقيق الآدمية لهم.
لك أن تقارن بين مستشفياتنا الحكومية والمستشفيات العامة فى بعض دول الخليج، لتعرف مدى تخلفنا وضياع الآدمية فى مستشفياتنا الحكومية.
حدثنى مصرى يعيش فى إحدى دول الخليج أنه خرج من المستشفى الحكومى هناك فوجد موظفا يهاتفه على محموله ليسأله عدة أسئلة منها: جودة الخدمة الطبية، وسرعتها، ودقتها، وحسن معاملة الطبيب والموظفين وأسئلة كثيرة أخرى، حتى ذهل حينما سأله هل ابتسم لك الطبيب واستمع لكل شكواك، تألم للمقارنة بين مستشفياتنا وهذه المستشفيات.
بعض المسئولين بمستشفى الماترنتيه بالإسكندرية يصرخ منذ شهور أن المستشفى يحتاج لمولد كهربائى والكهرباء تنقطع بين الحين والآخر وقد تؤدى لموت مرضى فى غرفة العمليات أو أثناء الجراحة ولا مجيب، وهذه الأيام تكرر الصراخ بشدة خشية أن يؤدى الانقطاع لمأساة مع مرضى الفشل الكلوى أثناء الغسيل، وهذه المستشفى ساهمت جمعية مصر الخير وكثير من المحسنين فى إصلاحات كثيرة بها.
الأخصائى والاستشارى بعدما يتعلم جيدا فى المرضى الفقراء فى المستشفيات الحكومية يستنكف خدمتهم بعد أن أغرقهم بأخطائه الطبية، ويضن عليهم بمهارته ليدخرها للمستشفيات الخاصة أو عيادته، ويتركهم مرة أخرى للنواب والامتياز ليتعلموا فيهم من جديد.
سألت استشاريا عن تزويغ الأطباء الكبار قالى لى أنا أزوغ مثلهم لأن القسم الذى أعمل به غرف عملياته تعمل يومين فى الأسبوع فقط، ونحن 35 جراحا فى القسم ويحتاج القسم إلى 6 فقط، فلو كانت هناك غرف عمليات كثيرة وتعمل يوميا، لكان لى عمل، ولكنى أزوغ لأنه ليس لى عمل، رغم أنى أستطيع إجراء أكبر الجراحات ولكن النظام الإدارى المتعفن بالمستشفى لا يعطينى فرصة الجراحات الكبرى فينخفض مستواى، فالمستشفى يريدنى أن أعيش فى الفتاق والزائدة والبواسير مع أننى أستطيع إجراء الجراحات الكبرى كلها التى درستها وحصلت بها على أكبر الشهادات فى تخصصى.
أما الأدوات الصحية فهى إما قديمة متهالكة أو درجة ثالثة وأغلبها صينى الصنع.
هناك مستشفيات تخصصها الأساسى الجراحات بأنواعها ولكنك تجد المدير تخصصه أطفال مثلا، وهو لا يعلم طوال خدمته ماذا تحتاجه الجراحة، المدير فى مستشفيات الجراحات ينبغى أن يكون إما جراحا أو للتخدير، كلاهما يعرف ما يحتاجه المستشفى.
أحيانا تجد وكيل وزارة «القائد الفعلى للمحافظة صحيا» كان طوال حياته فى القطاع الريفى، فكيف سيدير منظومة صحية حديثة فيها جراحات حديثة ومعقدة، الكوسة والولاء هما الأساس فى اختيار وكلاء الوزارة فى كل العصور.
معظم الأشياء فى مستشفيات الحكومة من التبرعات ولولا ذلك لضاعت هذه المستشفيات.
كل العالم اتجه إلى المستشفيات المتخصصة إلا نحن، هناك فى البحيرة ومعظم المحافظات مثلا 14 مستشفى مركزى وعام لو تحولت إلى مستشفيات متخصصة سيعرف المريض أين يذهب ويعالج، فقد يدور مريض الحوادث على هذه المستشفيات جميعا فلا ينقذه أحدها لأنها عقيمة وسقيمة الجدوى فى إنقاذه، وقد يموت فى طريقه للتنقل من هذه لتلك قبل أن يصل إلى المستشفى الجامعى الذى يستطيع إنقاذه.
حينما ذهب الرئيس الأسبق مبارك ليعالج فى دولة أوروبية قيل للطبيب المعالج: مصر دولة متقدمة فى كذا وكذا ومنها الطب، فرد ساخرا: لو كانت دولته متقدمة ما جاء لإجراء هذه الجراحة البسيطة عندنا.
معظم الأطباء الشبان النابهين يريدون الهجرة إلى أمريكا أو بريطانيا أو كندا أو استراليا أو الخليج ليأسهم من إصلاح المنظومة الصحية المصرية.
بدل العدوى لموظفى البنوك والقضاة أعلى بكثير من بدل العدوى للطبيب، ورفضت وزارة المالية صرف بدل العدوى الذى حكمت به محكمة القضاء الإدارى للطبيب، رغم أن عشرات الأطباء ماتوا ولقوا حتفهم نتيجة العدوى وهم يخالطون المرضى صباح ومساء، أيهما أكثر مخالطة للمريض القاضى أم الطبيب.
مساحة المستشفيات القديمة التى بنيت فى العهد الملكى شاسعة وهذا من الذكاء المستقبلى، ويمكن بناء عدة مستشفيات متخصصة فى كل مستشفى فى المساحات الفارغة، ولكن لا ميزانيات ولا رؤية حقيقة للتطوير.
كنا متقدمين على إسرائيل وكوريا واليابان والخليج فى مجالات الطب فسبقونا جميعا، فمن يتقدم يتقدم فى كل شىء، ومن يتأخر يتأخر فى كل شىء، أما الشعارات والسلام الجمهورى والحنجورى فلن يصلح مستشفيات مصر.
والخلاصة أن منظومة الصحة لا تحتاج لتلفيق حلول ورتق فتوق، ولكن لنظرة جديدة حديثة عصرية تواكب ما توصلت إليه الدول الكبرى التى نجحت فى ذلك وتعالج مستشفياتها رئيس وزرائها بنفس الطاقم والحجرة التى يعالج فيها أفقر الناس.