لم يؤلمنى خبر مثلما تألمت لخبر شاع فى أوساط المثقفين يكشف عن رغبة صاحب ومؤسس دار شرقيات للنشر فى إغلاقها بعد أن شعر بعدم قدرته على الاستمرار فى سوق النشر.
ومهما كانت الأسباب يظل الخبر مؤلما، فقبل عشرين عاما كانت هذه الدار ملأ السمع والبصر وكانت المحطة الأولى التى أقصدها بحثًا عن كتاب جديد قادر على الانتقال بى لخطوة أبعد فى الارتقاء بذائقتى الأدبية والفكرية.
وكان صاحبها حسنى سليمان باشا بشوشًا فى استقبال كل من يطرق بابه فى 5 شارع محمد صدقى باب اللوق سواء كان مبدعًا أو قارئًا. وكانت داره التى يندر أن تخلو من الناس أقرب ما تكون لـ«بيت للعابرين» يقع فى مواجهة شقة كانت هى الأخرى ملاذًا للمستضعفين فى الأرض يملكها المحامى القديس أحمد نبيل الهلالى.
ومثلما كانت شقة الهلالى مزارًا لرموز القوى الوطنية كانت «شرقيات» بالقيم التى أرستها واحة للمبدعين المصريين والعرب الذين لفت نظرهم جودة الأعمال التى نشرتها الدار منذ انطلاقها فى العام 1991، وكانت تقدم المثال النموذجى لفكرة (الطليعة الأدبية) كما كنا نقرأ عنها فى الغرب.
اعتنى حسنى سليمان منذ اليوم الأول بجمال الإخراج وأناقته وعهد بذلك لصانع الكتب الهمام محيى اللباد الذى لم يترك كعادته شيئًا للصدفة ومن يعود لأغلفة الدار بأمكانه أن يميز فيها قبل كل شىء مطوية الغلاف الأخير التى كانت تتضمن معالجة بصرية لصور المؤلفين وهوامش تعرف بهم إلى جانب التصميم المميز للشعار أو «اللوجو» الذى كان دالًا وبسيطًا حيث تظهر أسهم متساوية تشير إلى الانفتاح على كل الاتجاهات ويبرز فيها سهمًا يشير إلى الشرق بقوة أكبر للتدليل على تأكيد فكرة الهوية الحضارية دون أن تحرم الدار نفسها من مهمة التواصل مع جميع الثقافات والأجيال.
أخلص محتوى كتب شرقيات لهذه الفكرة طوال ربع قرن استطاعت الدار معه الجمع بين رموز جيل الأربعينيات أمثال أدوار الخراط وبدر الديب وأحمد مرسى مرورًا برموز جيل الستينيات أمثال جمال الغيطانى وإبراهيم أصلان وصنع الله إبراهيم وعبدالحكيم قاسم وعفيفى مطر وصبرى حافظ إلى أن وصلت لممثلى جيل التسعينيات مع نشر الكتاب الشهير «خيوط على دوائر».
وجد هذا الكتاب اهتمامًا كبيرًا وضم نصوصًا للمبدعين الجدد آنذاك أحمد فاروق وأحمد غريب ووائل رجب وهيم الوردانى ونادين شمس وعلاء البربرى وكرس لظاهرة الكتابة الجديدة التى تناسلت فيها الأجيال وانصهرت.
ولا يمكن لمنصف يؤرخ لحركة الأدب المصرى المعاصر أن يتجاهل دور «شرقيات» فى تقديم أصوات أدبية مهمة مثل فاطمة قنديل وإيمان مرسال وإبراهيم داوود وعلاء خالد ومصطفى زكرى ومى التلمسانى وميرال الطحاوى ومى خالد ووليد الخشاب ومنتصر القفاش الذين كانوا جميعا مساهمين على نحو ما فى نجاحها حيث حولها حسنى سليمان بروح الراعى الصالح التى تملؤه إلى «ورشة للأمل».
كنا جميعا أعضاء فيها وكانت مهمتها الوحيدة التبشير بالجمال وصيانته والمدهش أنك حين تتأمل مسيرة الدار تجد أن نجاحها لم يعتمد أبدا على «فرقعات» من أى نوع أو وصفة جاهزة لكسر «التابوهات» فهو نجاح كان خاليا من بهارات الجنس والدين والسياسة ووصفات «البيست سيلر» وقاوم إغراءاتها ببسالة وكثيرا ما داعبت صاحبها حين كنت أوصفه بالناشر «المحافظ» غير أنه كان يرد بابتسامة ظلت ملازمة له وأتمنى أن تبقى معه دائما.
ورغم الحزن الناتج من شيوع خبر إغلاق شرقيات إلا أن الأمل فى استمرارها يكبر بفضل روح التضامن التى أبداها بعض المثقفين والناشرين الذين ساءهم جدًا أن تفقد الثقافة المصرية ناشر نبيل اسمه حسنى سليمان.