«لونجا» حى عابدين

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 21 ديسمبر 2024 - 7:00 م بتوقيت القاهرة

عندى أسبابٌ كثيرة للحماس لهذه الرواية صغيرة الحجم، لمؤلفتها مريم عبد العزيز التى أدهشتنا بروايتها الأولى «هناك حيث ينتهى النهر»، مع أن الأمر لا يخلو فى الرواية الجديدة من بعض الملاحظات، ولكن كفة الإجادة أثقل وأكبر.
الرواية الصادرة عن دار الكتب خان، بعنوان «لونجا»، واللونجا قالب للموسيقى الشرقية الخالصة، كان يعزفه التخت، وله بناء يتكون من أربعة أقسام، كل منها يسمى «خانة»، وجزء خامس يُكرر بعد كل خانة يسمى «تسليم»، ويتميز قالب اللونجا بالقفزات والانتقالات والتحويلات المقامية، وبسرعة العزف، وارتبط فى سمعى دومًا بأشهر لونجا مصرية، وهى «لونجا رياض»، لمؤلفها رياض السنباطى التى كثيرًا ما بدأت بها الراحلة رتيبة الحفنى حلقات برنامجها التليفزيونى «الموسيقى العربية»، وبالتبادل مع مقطوعة «ذكرياتى» لمحمد القصبجى، حتى حفظناهما معًا، وهما حقًّا من روائع المؤلفات الموسيقية المصرية.
صاغت مريم روايتها مستلهمة قالب «اللونجا»، بتحويل الفصول إلى خانات، وبالاكتفاء بتسليم فى نهاية الرواية، بدلًا من تكرار التسليمات بعد كل خانة، واختارت أيضًا أن تكتب فصلًا تحت عنوان «تقسيمة خارج الوزن»، مستلهمة ما يحدث أحيانًا فى بعض اللونجات. سأعود إلى اختيار هذا الشكل السردى، ونصيبه من التوفيق، ولكنى سأبدأ من نقاط قوة الرواية، وعناصر إعجابى بالمعالجة الذكية.
أولها، فى رأيى، أن تصنيف العمل كرواية بوليسية، كتبت أصلًا ضمن ورشة اشتركت فيها مريم حول «أدب الجريمة»، لم يجعل العمل مجرد لغز بلا معنى، ولا هو جريمة مجانية، رغم أن النص ملىء بالتفاصيل، والأحداث، والانقلابات والمفاجآت، التى تميز «الرواية البوليسية»، بل إننا لن نعرف ما ستنتهى إليه أوراق جريمة مقتل شكرى، مدرّس الموسيقى العجوز الأعزب القاطن فى شارع مصطفى كامل فى حى عابدين، إلا فى صفحات الرواية الأخيرة.
لكن هذه الجريمة، التى حدثت فى نفس اليوم الذى مات فيه الشاب العاطل خالد، صديق شكرى وصاحب المنزل، ستكون منطلقا لما هو أهم، بالدراسة الاجتماعية والنفسية الممتازة للشخصيات، وعددهم كبير قياسًا إلى حجم الرواية، وبتحديد معالم كل شخصية، والتأسيس الجيد لدوافعها بكثيرٍ من الإتقان، كما أن توظيف علاقات الشخصيات، اتفاقًا واختلافًا، توافقًا وصراعًا، يحدث بشكلٍ مميز، ويسهم فى نفس الوقت فى دفع الحبكة البوليسية المعقدة إلى الأمام.
هى إذن «رواية اجتماعية» فى ثوب بوليسى مثير، ومحاولة لاختبار العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والأخلاقية بين عدة شخصيات، يرتبط بعضهم معًا بالقرابة، مثل عادل ابن شقيق شكرى، وياسر شقيق خالد، أو يرتبطون معًا بعلاقة الجيرة، واتهام الشخصيات بارتكاب القتل، يزيد من جرعة الغموض من ناحية، ويعرّى أفكار وحسابات وصراعات تلك الشخصيات، فى زمن يجعلك «تضرب.. وتلاقى»، وهو شعار الخادمة البائسة بُشرى التى اتهمت بقتل مخدومها شكرى.
«الحبكة البوليسية» وظّفت أيضًا لنقل عالم حى عابدين بأكمله، بل إننا نرى تقريبًا أبرز شوارعه، كما بدا المكان التاريخى القديم، برسوخه وحضوره، فى حالة تناقض مذهلة مع تلك القيم الجديدة المعاصرة، والتى تقودنا إلى جريمة قتل، ثم محاولة تواطؤ أكثر خطورة وانحطاطًا بين الشخصيات.
يمكن أن تضع الصراع كله تحت لافتتين: ثنائية الموت والحب، واستلهام جديد لمأساة يوسف وإخوته، فالموت قوى ومسيطر، بل إن الرواية عن موتين فى يوم واحد، ولشخصين أحدهما معجبانى وعاشق للنساء، والثانى يطلقون عليه «الرايق».
أما الحب فهو لا يكتمل أبدًا، سواء فى حب شكرى القديم لسميحة، أو فى حب خالد لخطيبته، وقد فرّق بينهما الموت، أو فى فشل ياسر فى أن يحل محل أخيه بعد موته، بالزواج من خطيبته المكلومة.
حكاية يوسف وإخوته يشار إليها فى تفضيل الأم أنوار لابنها خالد على ابنها ياسر، فيشعر ياسر بالحقد والمرارة طوال الوقت، ومع التواطؤ لدفن الحقيقة، يبدو كما لو أن خالد قد مات مرتين، ويبدو كما لو أن جشع الجميع قد انتصر على المختلفين والمحبوبين.
هنا قراءة أخرى للنص سببها ثراء علاقاتها وغرابتها، دون أن أؤكد قصدية المؤلفة لذلك، ولكنى أردت فقط التدليل على نجاح هذا الخط البوليسى فى خدمة مغزى اجتماعى مهم، مثلما لفتتنى جدًا تلك الحالة البائسة للشخصيات النسائية، بصرف النظر عن مستواها الاقتصادى: فمن المتوقع بالطبع أن تعانى امرأة فقيرة كثيرة الأبناء مثل بُشرى، بعد موت زوجها، ومن المرجح أن تورِّث البؤس لابنتها الطالبة، ولكن خطيبة خالد تعانى أيضًا بعد وفاته، إذ يُنظر إليها على أنها مشئومة، فيسرع والدها لتزويجها لأول عريس، قبل مرور عام على وفاة خطيبها، وسميحة المعشوقة لم ولن تتزوج من شكرى، بسبب مغامراته النسائية… إلخ.
دائرة مغلقة متشابكة لعلاقاتٍ لا يُتوقع أن تحقِّق نجاحًا، لأنها أصلًا غير متوزانة، وكأن هناك جريمة بالأساس حتى قبل وقوعها، وكأن استباحة شقة شكري، واستخدام مفتاحه، عنوان لتفكك اجتماعى وأسرى وأخلاقى، بصرف النظر عن مقتل الموسيقار العجوز.
فى كفة الملاحظات أن عنوان «لونجا» كان يكفى استخدامه فقط بالإشارة إلى «لونجا سميحة»، التى تركها شكرى مدوّنة، دون أن يمتد الأمر إلى محاكاة النصّ نفسه لبناء اللونجا، والحقيقة أننى لا أتحمس كثيرًا لمحاكاة أبنية الموسيقى الخالصة شرقية أو غربية، كاللونجا والكونشرتو، فى مجال السرد، لأن «تجريد» الموسيقى لا يشبهه ولا يوازيه شىء، وخصوصا بالمقارنة مع أجواء واقعية، بل ومغرقة فى الواقعية.
بدا غريبا أيضا ذلك الجزء الخاص بالتقاسيم خارج الوزن، فلا مبررات منطقية لرحلة اختبار «البشعة» فى الإسماعيلية، والتى انتهت إلى لا شىء، ومع تكرار الأشعار، وعناوين العاشق والمعشوق، تأكَّد لى أن قالب «اللونجا» لم يخدم السرد، بل جعله متكلّفًا من حيث الشكل.
ربما كان غريبًا أيضًا سهولة التسليم بانتحار خالد رسميا، وهو أمر صعب وبعيد الاحتمال.
لكن رواية «لونجا» تظل -مع ذلك- حكاية طموحة وجديرة بالتأمل، عن الموت والحب، بقدر ما هى حكاية عن موت القلوب والضمائر.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved