نهاية عصر العلاج الكيماوى

خالد الشامي
خالد الشامي

آخر تحديث: السبت 21 ديسمبر 2024 - 6:55 م بتوقيت القاهرة


فى شهر يوليو من عام ١٩٤٣ وصلت معلومات سرية من مكتب الخدمات الاستراتيجية (الذى تحول بعد الحرب العالمية الثانية إلى وكالة المخابرات المركزية) تفيد بأن القوات الألمانية قد تستخدم الأسلحة الكيماوية ضد قوات الحلفاء فى إيطاليا. وقرر روزفلت، الرئيس الأمريكى وقتها، أن الحلفاء سيردون بالمثل. وبالفعل أبحرت المدمرة الأمريكية «چون هارڤى» ليلة ١٨ نوفمبر ١٩٤٣ من ميناء وهران فى الجزائر فى اتجاه ميناء بارى على البحر الأدرياتيكى فى إيطاليا.
كان على متن المدمرة ٢٠٠٠ قنبلة مليئة بغاز الخردل وهو أخطر سلاح كيماوى فى ذلك الوقت. ولم يكن أحد من بحارة المدمرة يعلم بطبيعة حمولتها سوى القبطان. لكن قبل رسو چون هارڤى بدقائق هاجم الطيران الألمانى الميناء وأصيبت المدمرة إصابة مباشرة أدت لانفجار حمولتها بالكامل ومقتل ٧٠٠ بحار وعامل ميناء فى الحال. أما من نجوا فتم نقلهم للمستشفيات. هناك لاحظ الأطباء أمرا مثيرا أن الناجين لم يكن لديهم أى خلايا دم بيضاء أو خلايا ليمفاوية. وتم نقل ملفات المرضى بعد رفع السرية إلى جامعة ييل حيث قام علماء العقاقير هناك، بعد إدراكهم أن غاز الخردل يقتل الخلايا البيضاء والخلايا الليمفاوية، بالتوصل لتعديل التركيبة الكيميائية لغاز الخردل لتطوير عقاقير يمكن استخدامها فى علاج سرطان خلايا الدم البيضاء (اللوكيميا) والسرطانات الليمفاوية.
وبالفعل حدث نجاح مبهر فى علاج هذه السرطانات بما اصطلح على تسميته بالعلاج «الكيماوى» نسبة إلى غاز الخردل. فى البداية كانت العقاقير الكيماوية تستخدم منفردة وأدى ذلك لنجاحات محدودة، لكن فى عام ١٩٧٣ تم استخدام عدد من العقاقير بجرعات محددة مما أدى لشفاء السرطان الليمفاوى تماما حتى فى مراحله المتقدمة. منذ ذلك الوقت، نجح العلاج الكيماوى فى شفاء بعض أنواع سرطانات الدم والخصية وتحسين نتائج علاج العديد من السرطانات كالثدى والقولون والرئة باستخدام العلاج الكيماوى كمكمل للاستئصال الجراحى أو العلاج بالأشعة.
لكن كان من الواضح أن هناك سقفا لنجاح العلاج الكيماوى لا يمكن اختراقه. ذلك أن هذه العقاقير تقوم بقتل الخلايا سريعة الانقسام. وهذا بطبيعة الحال لا ينطبق على الخلايا السرطانية فقط، لأن خلايا نخاع العظام وبصيلات الشعر والغشاء المبطن للأمعاء تنقسم بسرعة وبالتالى تتعرض لأعراض جانبية شديدة الوطأة كسقوط الشعر والإسهال وتثبيط حتمى للمناعة قد يؤدى لأمراض معدية تسبب الوفاة. ظل العلاج الكيماوى بجانب الجراحة والعلاج الإشعاعى فى صدارة المشهد منذ خمسينيات القرن الماضى وحتى الآن.
لكن فى خلفية الصورة كانت هناك أبحاث شاقة ومضنية فى محاولة حشد وتجنيد الجهاز المناعى لمريض السرطان لشن ضربات «جراحية» على الخلايا السرطانية فى مكامنها. بدأت هذه الجهود بملاحظة أحد الجراحين الأمريكيين، ويليام كولى شفاء بعض مرضى السرطان بعد انتشار مرض «الحُمرة» فى عنابر أحد مستشفيات نيويورك فى عام ١٨٩١. وكان الاستنتاج المنطقى هو أن تحفيز الجهاز المناعى بفعل الالتهاب البكتيرى أدى إلى تراجع السرطان كنتيجة عرضية. لكن لمدة قرن تقريبا باءت التجارب المعملية والسريرية لحشد الجهاز المناعى ضد السرطان بالفشل أو على أفضل تقدير لاقت نجاحا محدودا.
نتائج هذه الأبحاث كشفت عن مفارقة، أن الجهاز المناعى للإنسان يحتوى على خلايا ليمفاوية تستطيع قتل الخلايا السرطانية. لكنها لا تتواجد عادة فى أماكن السرطان ولا تستطيع الوصول إليه. ولك أن تتخيل تحرك خلية مناعية من منطقة الصدر إلى منطقة الحوض مثلا يعادل قيام إنسان بالسباحة من لوس أنجلوس إلى سيدنى بدون بوصلة.
هذه المعضلة تم حلها فى السنوات القليلة الماضية عن طريق استخدام الأجسام المضادة ثنائية النسيلة. وهى عبارة عن جزىء بروتين له ذراعان. يمسك الذراع الأول بالخلية المناعية والذراع الثانى بالخلية السرطانية. يتمكن من ذلك عن طريق الالتحام الحصرى مع بروتينات معينة على سطح الخلايا المختلفة. هذا الالتحام يؤدى لالتحام الخلية المناعية بالخلية السرطانية، وهذا يؤدى لقتل الخلية السرطانية أينما اختبأت. استخدام الأجسام المضادة ثنائية النسيلة فى علاج سرطانات الدم وبعض أنواع سرطان الرئة وسرطان الجلد أدى لنتائج مثيرة فى حالات متأخرة من المرض فشل فيها العلاج الكيماوى فى إيقاف تقدم السرطان. تداعيات هذا الكشف الجديد فى علاج السرطانات فى كافة مراحله ستكون كبيرة.
الجهاز المناعى يتمتع بميزات فريدة منحتها له ملايين السنين من النشوء والارتقاء. فهو قادر على إنتاج خلايا مناعية بأعداد مهولة وبسرعة عالية. هو أيضا قادر على التعرف على الخلايا السرطانية بدقة متناهية ثم إعادة التعرف عليها حين تحاول تغيير شفرتها البيولوجية لتضليل الجهاز المناعى وإجهاض هجومه مع الاحتفاظ «بذاكرة» مناعية طويلة المدى لمنع عودة نمو الخلايا السرطانية (كما هو الحال فى المناعة المكتسبة ضد الحصبة مثلا عن طريق التطعيم والتى تمنح المريض حصانة ضد الحصبة مدى الحياة). والجهاز أيضا يملك قدرة على التغير والتطور ليواكب وربما يسبق سرعة الخلية السرطانية على التغير والتطور لتقاوم العلاج الموجه تجاهها أيا كان.
هذا الاكتشاف الجديد، واكتشافات أخرى مهمة فى مجال العلاج المناعى للأورام يبشر بنقلة نوعية مفصلية فى الطريق للقضاء على السرطان أو على الأقل تحييده كمرض قاتل. هذه النقلة هى بداية عصر العلاج المناعى للسرطان، وأفول عصر العلاج «الكيماوى» لهذا المرض.

 

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved