ثورة يناير وإعلام الصوت الواحد
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 22 يناير 2017 - 9:30 م
بتوقيت القاهرة
لا ينكر المراقب المنصف لمجريات الأمور فى مصر أن الذكرى السادسة لثورة يناير تأتى فى لحظة عصيبة لمن شاركوا فى أحداث هذه الثورة ومن يؤمنون بمبادئها وكل من تصوروا أنه يمكن أن تكون انطلاقة جديدة لشعب مصر وغيره من الشعوب العربية على طريق اللحاق يتقدم بسرعة هائلة. لحظة عصيبة بالفعل فشعارات الثورة فى الحرية والعيش والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية تبدو بعيدة التحقق. الحريات العامة فى التعبير والتنظيم والاجتماعات العامة فى تراجع، ومعدلات العمل ومستويات المعيشة تتدهور للجميع، والعدالة الاجتماعية التى أصبح ينادى بها صندوق النقد الدولى تجد حكومتنا عشرات الأعذار حتى تؤجل الأخذ بأبسط معاييرها، والشعور بالكرامة الإنسانية يتلاشى ونحن نقرأ قصة السيدة سعاد ثابت المسيحية التى اعتذر لها رئيس الدولة عن جريمة تعريتها علنًا، والتى أسقطت النيابة العامة شكواها مدعية عدم كفاية الأدلة، وتعجز سلطات الدولة عن إعادتها إلى مسكنها الذى بنته لها الحكومة لأن غلاة المتعصبين يهددون حياتها لو تجرأت على العودة إليه.
افتراءات إعلام الصوت الواحد
فى مثل هذه الأجواء تتراجع أيضا أحلام من تعاطفوا مع هذه الثورة، ومنهم بعض من نصبوا أنفسهم متحدثين باسمها، فأصبحنا نسمع دعوات عن القبول بالديكتاتورية كقدر محتم علينا فى الحاضر والمستقبل المنظور، ونقرأ لمن يضع آماله على أن يتم تقدم بلادنا على أى نحو، حتى ولو فى ظل أوضاع غير ديمقراطية، وحتى عندما يدرك بعض من يرددون مثل هذه الدعوات أن سجل الحكم غير الديمقراطى فى مصر أوكل البلاد العربية لا يوحى بقدرة غير عادية على الإنجاز، فمجرد ترديد مثل هذه الدعوات لهو دليل على اليأس من إمكان حدوث أى تحول جاد نحو أوضاع أكثر إنسانية فى بلادنا، وانتشار مثل هذا الشعور باليأس يمهد للتمادى فى الابتعاد عن مثل هذه الأوضاع المأمولة. ولعلى أذكر من يلوكون هذه الأفكار بما قاله ألكسندر الأكبر بأنه لا يوجد مستحيل أمام من يبذل الجهد فى محاولة بلوغه، واضيف أن البشر يصلون إلى الممكن عندما يتطلعون إلى المستحيل». وبعبارة أخرى القبول بالديكتاتورية سوف ينتهى بنا إلى أوضاع أسوأ منها، ولكن التطلع إلى الديمقراطية قد يؤدى بنا إلى أوضاع ليست هى بكل تأكيد الديمقراطية المثلى، ولكنها ستكون على الأرجح أفضل من أسوأ صور الديكتاتورية، وقد تؤدى مع العمل الدؤوب والجهد المتواصل إلى أوضاع أكثر إنسانية.
وفى مثل هذه الأجواء تسود فى إعلام الصوت الواحد أكاذيب لا حد لها عن ثورة يناير. يرحب هذا الإعلام بكل من يقول إن ثورة يناير كانت مؤامرة. ويجاهر كل من يقولون بذلك بأنهم من أنصار الرئيس السيسى. ولا أعرف لماذا لا تتحرك النيابة العامة ضد هؤلاء، ألا يشكل ذلك طعنا فى الدستور الذى أشاد بها كثورة، أو لا يعتبر ذلك قدحا فى كل أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة الذين مكنوها من بلوغ واحد من أهدافها المباشرة، وهو إسقاط حكم حسنى مبارك. وهذه النيابة العامة التى أبهرتنا الأسبوع الماضى باكتشاف أن لاعب كرة شهير ورئيس حزب أطلق سراحه منذ شهور مع ألف وخمسمائة آخرين هم «إرهابيون» شاركوا فى أعمال إرهابية مثل نشر الأخبار الكاذبة والترويج للشائعات والتعامل فى السوق السوداء للعملة وممارسة الاحتكار، وأنهم أصبحوا مهددين بمصادرة أموالهم ومنعهم من السفر، وذلك دون تحقيق معهم من أى نوع. ولاشك أن هؤلاء الخبراء الدوليين الذين أنفقوا وقتا وجهدا فى محاولة تعريف الإرهاب، ولم يتفقوا بعد على مثل هذا التعريف، سوف ينبهرون مثلى بهذا «الاجتهاد» الذى توصلت إليه أجهزة الاتهام فى بلدنا. فلماذا لم توجه اتهامات لهؤلاء الذين وصفوا ثورة يناير بأنها مؤامرة. لا أتصور أن ذلك سيحدث. وطبعا هؤلاء سيقولون أنهم يمارسون حرية الرأى، وهم يضيقون ذراعا بمن لا يشارك آراءهم، ونجحوا حتى الآن فى إبعاد من يختلف معهم من أجهزة الصحافة والتليفزيون والإذاعة، بل وينادون بطردهم من وظائفهم إذا كانوا يتولون منصبا عاما، حتى ولو كانوا من الوزراء.
ومن العجيب أن إعلام الصوت الواحد يكرر أن ثورة يناير هى السبب المباشر فيما حدث من تردٍ فى أوضاع مصر الاقتصادية والسياسية، ومن تدهور فى مكانتها الإقليمية والدولية. لايمكن إنكار أن كل الثورات تعقبها فترات من الاضطراب وعدم الاستقرار. فقد يكون من السهل تحطيم البناء القديم، ولكن ليس من السهل تشييد البناء الجديد محله وفى فترة قصيرة من الزمن. ولكن من الذى يتحمل مسئولية التأخر فى البناء، بل واستعادة الكثير من معالم المبنى القديم؟ هل هم الثوار الذين ترفعوا عن ممارسة السلطة أم أن قسطا من المسئولية يتحمله كل من مارسوا السلطة بالفعل منذ فبراير 2011 وحتى الوقت الحاضر؟، بينما وجد من ارتبطت أسماؤهم بالثورة أنفسهم إما مبعدين عن السلطة إذا كانوا محظوظين، أو فى غياهب السجون إن لم يكونوا محظوظين، أو بعيدين عن العمل العام تماما.
ولكن هذا لا يعنى أن يعفى من يؤمنون بثورة يناير أنفسهم من المسئولية. هم مع كل المصريين مسئولون عن مستقبل هذا الوطن. وحتى لو كانت أوضاع العمل العام فى مصر من خلال الأحزاب أو منظمات المجتمع المدنى لا تسمح حتى بمجرد الحلم بموجة ثورية جديدة، فإن عليهم استخلاص الدروس من الماضى القريب، والاحتفاظ بالرغبة فى التغيير إلى الأقضل فى مواقع عملهم وفى الدوائر القريبة منهم التى يتحركون فيها، وأن يواصلوا التفكير الجاد فى القضايا التى تشغل الوطن فى الحاضر أو التى لابد وأن ينشغل بها فى المستقبل.
من النقد الذاتى إلى استشراف المستقبل
بعض القضايا التى يجب أن تشغل المهمومين بقضايا التقدم فى هذا الوطن هى استخلاص الدروس من إخفاقات ثورة يناير، وهى إخفاقات كانت شبه حتمية بحكم طبيعة ثورة ليست لها قيادة ولا تنظيم ولا برنامج واضح. ولكن انفصال القيادات فى أعقاب نجاح الثورة فى الإطاحة بنظام مبارك عن جمهرة المواطنين هو الذى أضعف جناح الثورة أمام القوتين الأكثر تنظيما وانضباطا وهما القوات المسلحة والإخوان المسلمون. هل تواجدت القيادات الثورية مع العمال وموظفى الحكومة ومع الفلاحين وهل تفهمت مطالبهم، وناضلت معهم من أجل تحقيق هذه المطالب؟ هل يكفى العمل من خلال أدوات التواصل الاجتماعى لإقامة حركات اجتماعية وتنظيمات نقابية وسياسية قابلة للاستدامة والصمود؟ وما هو البرنامج الذى تطرحه هذه القيادات على هؤلاء المواطنين؟ وما هو مدى وجود هذه القيادات فى المنظمات النقابية والمطلبية بكافة أنواعها؟
لن يمكن النجاح فى وجود تنظيمى فعال دون أن يكون هناك فهم عميق للواقع الاجتماعى المتغير فى مصر، وأن ينعكس هذا الفهم فى خطاب تتواصل به هذه القيادات وهؤلاء النشطاء المؤمنون بثورة يناير مع المواطنين ومن داخل تنظيماتهم. لابد أن يتصدى هذا الخطاب لثلاث قضايا أساسية. أولاها هى القضية الاقتصادية. برنامج الحكومة الاقتصادى يلقى أعباء فادحة على كل المواطنين. هذا أمر مسلم به؟ ولكن ما هو البرنامج البديل؟ وكيف يمكن أن تخرج مصر من أزمتها الاقتصادية فى أقرب وقت مع أقل قدر من التضحيات بمستوى معيشة الطبقات الفقيرة والكادحة، وبما يحقق أيضا توسع القطاع الخاص المنتج ورفع كفاءة ما تبقى من القطاع العام. كيف يزيد إنتاجنا الصناعى والزراعى والخدمى بمعدلات سريعة وكبيرة وبجودة تسمح بتصديره إلى أسواق العالم بحيث يغطى دخلنا من الصادرات ما نحتاجه لوارداتنا المتزايدة، وحتى نخرج من قبضة الاقتصاد الريعى الذى يضعنا تحت رحمة تقلبات السياحة وضغوط الدول التى يوجد فيها عمالنا المهاجرون؟ هذه قضية تستحق دراسة متعمقة وجهودا جادة لا تستسلم لمقولات ساذجة من قبيل أنه يجب إلغاء الاتفاق مع صندوق النقد الدولى وإعادة توزيع الثروات. ولنفكر فى درس التجربة اليونانية التى أضطر فيها حزب يسارى لاشك فى التزامه بصالح أغلبية المواطنين إلى قبول جرعة التقشف المرة التى طالب بها الاتحاد الأوروبى والمؤسسات المالية الدولية.
والقضية الثانية هى مستقبل الإسلام السياسى فى مصر؟ هل يمكن ضمان الإستقرار السياسيى والاجتماعى فى مصر مع الإبقاء على آلاف من المواطنين قيد السجون أو منفيين فى الخارج بدعوى انتمائهم إلى حركة الإخوان المسلمين؟ ألا يوجد سيبل آخر سوى الحل الأمنى للحيلولة دون استمرار أعمال العنف فى سيناء وامتدادها كما رأينا أخيرا إلى بقاع أخرى فى الوطن؟ هل يمكن، حتى ولو على سبيل المناقشة التفكير فى سيناريو مصالحة تاريخية تضمن الحقوق المدنية والسياسية لكل المواطنين ومعها استقرار سياسى ووحدة وطنية تقوم على احترام الحق فى الاختلاف؟
والقضية الثالثة هى الموقف من القوات المسلحة. لا يمكن استبعاد القوات المسلحة كطرف فاعل ومشارك فى نهضة هذا الوطن. وقد استبشرت خيرا بمشروعات الشراكة بين وزارة الإنتاج الحربى ومؤسسات جامعية وشركات القطاع الخاص. ما هى الصيغة التى تضمن مدنية الحكم فى مصر، وتفرغ القوات المسلحة لواجبها الأساسى فى الدفاع عن الوطن، ومشاركتها فى ذات الوقت فى جهود التنمية بالمشاركة مع قطاع خاص حافل بالإمكانات وقطاع عام عليه أن يقوم بالدور الرائد فى دفع النمو.
ليس من الواقعى انتظار تكرار تجربة تاريخية لم تعد الظروف التى سهلتها قائمة، ولكن الحفاظ على الحلم والاجتهاد لتحقيقه يمكن أن ينقلنا إلى أوضاع أكثر إنسانية.