الثورة مستمرة
أهداف سويف
آخر تحديث:
الأربعاء 22 فبراير 2012 - 9:25 ص
بتوقيت القاهرة
أكتب هذا ونحن فى انتظار انتصار الجوع على الظلم، وفى انتظار رؤية أثر التضامن الشعبى بالرغم من صمت الحكومات ــ فى انتظار الإفراج عن خضر عدنان، الفلسطينى الأسير فى مستشفى الرملة بإسرائيل، والذى أضرب عن الطعام سبعة وستين يوما. خضر عدنان يعمل خبّازا فى بلدته، عرابة، بالقرب من جنين فى الأراضى الفلسطينية المحتلة. عنده ٣٤ سنة. له بنتان وزوجة حامل. خبّاز فى عرابة، ويبيع الزعتر فى سوق قباطية، ويعمل على الماجستير فى الاقتصاد من جامعة بيرزيت. وضعته السلطات العسكرية الإسرائيلية فى الاعتقال الإدارى تسع مرات منذ كان طالبا فى التاسعة عشرة من عمره، وهذا على خلفية انتمائه لـ«الجهاد الإسلامى» ــ بالرغم من أن عمله فى التنظيم كان مقتصرا على تمثيل التنظيم، وتنسيق لجنة التواصل والإصلاح. لم يستطع الإسرائيليون على مدى ١٥ سنة و٩ قبضات أن يثبتوا أى تهمة عليه، فلجأوا إلى «الاعتقال الإدارى»، وهو إجراء عسكرى تستعمله السلطات لتوقيف وحبس الفلسطينيين بدون محاكمة، فبين الأربعة آلاف وأربعمائة وسبعة عشر سجينا المحبوسين حاليا فى السجون الإسرائيلية هناك ثلاثمائة وعشرة معتقلين إداريا.
آلية الاعتقال الإدارى ورثتها بلادنا عن المستعمر ــ وفى فلسطين ومصر عن المستعمر البريطانى على وجه التحديد.
كان فى قلب المشروع الاستعمارى الغربى، وفى صميم إصرار المستعمِر على أنه يُفيد وينَمّى الشعوب التى يستعمرها، قناعته بأن هذه الشعوب ــ وكانت فى معظمها شعوب الجنوب القديمة ــ تعيش بالعواطف والروحانيات، وتفتقر إلى العقلانية. وكانت قناعته هذه تستند ــ فى جانب كبير منها ــ إلى ملاحظته (ملاحظة مستكشفيه ورحالته وتجاره ومبشريه) أن هذه الشعوب، لديها إحساس عالٍ بالطبيعة، إلا أنها لا تنظر إلى هذه الطبيعة بوصفها ــ فى المقام الأول ــ مجموعة موارد يمكن استغلالها؛ أى أنها لا تنظر إليها بنظرة عقلانية. وجاء الأوروبى يعلم شعوب الجنوب كيف تستغل الطبيعة. وللحديث فى هذا، وما أوصلنا إليه، مقام آخر. ما أذهب إليه هنا هو أن الإنسان نفسه، كان بالطبع جزءا من الطبيعة المطلوب استغلالها.
وفى نظم الاستعمار التقليدية، يحتاج المستعمِر إلى أهل البلاد ليستغلهم كمنتجين للثروة والخدمات، وأيضا كسوق استهلاكية. فى فلسطين، بعد الانتفاضة الثانية (عام ٢٠٠٠) عمدت إسرائيل إلى الاستغناء عن الفلسطينيين كعمالة مستغَلة، فاستوردت العمالة من الخارج، وأصبحت تستعمل الفلسطينيين فقط كسوق، محاصَرة، لمنتجاتها، ونشطت وابتكرت فى سياسات لا توصَف إلا بـ«التهجيرية» ــ وأظهرت نواياها الأصيلة الثابتة؛ فالصهيونية، منذ أن وضعت عينها على هذه البقعة من الأرض فى نهايات القرن التاسع عشر، تريد الأرض ولا تريد أهلها.
وقد بدا للمصريين فى العقد الأخير أن النظام فى مصر أيضا وصل إلى أنه لم يعد بحاجة كبيرة للمصريين إلا من باب وضع يده فى جيوبهم ونشلهم من حين لآخر، فهو لا يهدف إلى بناء صناعة ينافس بها خارج البلاد، ولا إلى تطوير سياحة تخلق أرضية مشتركة مع من يزورونا، ولا إلى كشوفات علمية فى أى من المجالات التى ينصب عليها اهتمام العالم اليوم ــ والتى يفترض أن جغرافية مصر تؤهلها لدور مهم فى البحث فيها ــ كالمياه والطاقة البديلة، ولا إلى ريادة إقليمية أو عربية؛ هو بالأساس يهدف إلى تفكيك البلد وبيعها قطعة قطعة، من أرضها، لنيلها، لمصانعها، لآثارها. ومن هنا كان الشعب فى الحقيقة عائقا أمام مشروعات الدولة، ورأينا فعلا البدء فى استجلاب العمالة الأجنبية من عمالة زراعية آسيوية فى منطقة القنال، إلى موظفى سياحة وخدمات من أوروبا، إلى مستشارين وحراسات من الولايات المتحدة. وأكثر من نكتة شاعت فى سنوات مبارك الأخيرة كانت ترمى إلى رغبة النظام فى تطفيش أو تغيير الشعب. ومن أعجب ما ذكره الأستاذ هيكل فى حلقاته الأخيرة فى هذه الجريدة استنكار مبارك لفكرة التوريث على أساس أنه لا يحب أن يورِّث ابنه «خرابة».
استفاق الشعب المصرى، وأضاءت له تونس أملا، فنزل إلى الشوارع بثورة، يثبت حقه فى بلاده، فى الحياة فيها، وفى إدارتها لمصلحته، وبما يحقق له العيش، والحرية والعدالة الاجتماعية ــ وعن طريقها: الكرامة الإنسانية. وقابل النظام هذه الثورة بالقتل، فقَتَل فى مصر منذ بدء الثورة وحتى اليوم نحو ألف وربعمائة مواطن مصرى؛ أى نحو نفس عدد الفلسطينيين الذين قتلتهم إسرائيل فى عدوانها على غزة فى ديسمبر ٢٠٠٨.
ما الذى يملكه الإنسان، الذى يصر على السعى نحو حياة كريمة، فى ظل نظام لا يرى فيه أى قيمة سوى ربما استغلالية أو استهلاكية؟ النظام لا يرى غير هذا لأن بقاءه يعتمد على هذه الرؤية. والإنسان، الرافض، الثائر، لا يستطيع بالمثل أن يتخلى عن رؤيته لنفسه كإنسان ويقنع بحياة غير كريمة. ما الذى يملكه الرافض، الثائر، الراغب فى حياة أفضل وأكرم ــ والذى لا يرغب فى ممارسة العنف؟ يلجأ إلى القانون. ويلجأ إلى الكلمة، إلى النقاش والمحاججة، والنشر والحث والحشد. وإن وجد كل هذا بلا طائل؟ صارت أداته الوحيدة هى جسده. فينزل الثوار إلى الأماكن العامة ويضعون أجسادهم فى مواجهة النظام. وهذا ما فعلناه ونفعله تكرارا فى مصر. وهذا ما نفعله ــ بثمن أفدح ــ فى سوريا. وهذا ما نفعله فى فلسطين والبحرين وغيرهما.
وهناك أشكال أخرى ــ أشكال أكثر حدة ــ فى توظيف الإنسان لجسده كأداة فى معركته من أجل الحرية والكرامة؛ وفى هذه الأشكال يعرض الثائر جسده للأذى بإيجابية أكثر. وفى الأشهر الماضية تنقلت راية هذا الشكل من الاحتجاج بين بلدان منطقتنا، فمن محمد بوعزيزى وفعل إضرام النار فى الجسد، إلى مايكل نبيل ــ الذى أجدنى أختلف مع كل شىء فى آرائه تقريبا سوى إصراره على حقه فى التعبير عنها ــ إلى ليلى سويف والإضراب عن الطعام حتى تحويل اتهام ابنها علاء عبدالفتاح فى قضية ماسبيرو إلى القضاء المدنى، إلى خضر عدنان فى سجنه الإسرائيلى، يهتف بعد أكثر من شهرين دون طعام «الإضراب مستمر! حتى الحرية والعزة والكرامة!» ويضرب الآن عن الطعام: مهدى غزالى (إيران، ٤٦ يوما)، وعبدالهادى الخواجة (البحرين، ١٣ يوما)، وتاج السر جعفر (السودان، ١٠ أيام)، وعبد الإله حيدر (اليمن، ٩ أيام). كما بدأ عدد من الأسرى الفلسطينيين فى سجون عوفر ومجيدو ونفحة وريمون إضرابا فى أول فبراير، وأعلنت أعداد أخرى دخولها فى الإضراب فى نهاية الأسبوع الحالى إن لم يتم الإفراج عن خضر عدنان.
هذه الأفعال، أفعال المقاومة الجسدية، المعبرة عن الإصرار على ممارسة الحرية، هى فى الأساس، محاولة أخيرة للتواصل؛ فهى تحمل رسالة لقوى القهر، ورسالة لرفاق الطريق، ورسالة للواقف فى وضع المشاهدة. منذ ستة أيام كتب الدكتور مهدى غزالى، إلى زوجته، من عنبر ٣٥٠ بسجن إيفين فى إيران: «من الصعب أن تشهد دموع زوجتك وأبنائك، وذلك الألم الذى فرضته أنت عليهم بقرارك ــ لكن هذا الحب وهذه الدموع لا يجب أن تتحول إلى قيود وأثقال. حبيبتى، لنبك معا إذن، فهذه الدموع التى نبكيها اليوم هى الطوفان الذى يقتلع الظلم والاستبداد». وفى الرسالة الأخيرة التى أرسلها خضر عدنان مع محاميه إلى كل من يساندونه قال: «أجوع لكى تبقوا … أموت لكى تحيوا … فابقوا مع الثورة».
أى ثورة؟
ثوراتنا كلها، فهى فى الجوهر ثورة واحدة: القضية واحدة فى مصر وفى سوريا وفى البحرين وفى فلسطين: إصرار الإنسان على أن يعيش حياة حرة كريمة ــ حياة يسود فيها القانون، فيتساوى الكل أمامه، ويكون لكلمة الحق فيها قيمة؛ ثورة تنشد الحرية والعدالة والكرامة لنا جميعا ــ لنا كمصر، كعرب، كشعوب الجنوب، كشعوب الأرض. وكان من المفترض أن مصر الثورة ستكون سندا لكل من يقوم طالبا هذه القيم، ففرحنا لتصالح الفلسطينيين على يد خارجية الدكتور نبيل العربى، ولبدء إجراءات فك الحصار عن شقيقاتنا وأشقائنا فى غزة ــ ثم خبا هذا الضوء حين استشعرنا حقيقة وضعنا فى ظل حكم المجلس العسكرى وحكوماته المتعاقبة. فماذا قدمت مصر فى موضوع خضر عدنان؟ مصر التى تفاوضت ففكت أسر جيلعاد شاليط، وكان جنديا جاء لقتل الغير فأسروه ــ ماذا قدمنا؟ فتوى من شيخ بالأزهر بأن إضراب خضر عدنان عن الطعام حرام شرعا، صدتها السيدة «رندة»، زوجة المناضل، صدا باهرا حين ردت «لا يفتى قاعد لمجاهد».
مسئولية مصر أردنا أم لم نرد هى نحو المنطقة كلها (وأكاد أقول نحو العالم كله). كما الحال فى مصر سيكون الحال فى المنطقة. والكل له مصلحة فى منطقتنا. هذا هو السر فى ضخ الأموال، وتوافد اللجان، وتكاثر المشروعات والمؤتمرات والمؤامرات. مسئولية مصر مسئولية تاريخية، أخلاقية، كونية. أما من يريد التخلى عن هذه المسئولية فعليه أن يخلع عن مصر تاريخها وجغرافيتها وشعبها ــ يخلع عنها مصريتها. ولن أشتبك مع أصحاب «مصر أولا»، فإن كانت مصر حقيقة لشعبها؛ تدار برؤيته ولمصلحته، فهى ستكون لأصدقائها ولجيرانها ولخير العالم.
واليوم عن خضر عدنان: توصيلا لرسالته للثوار كلهم، ولسلطات القمع كافة، أقول للسيدة رندة: «لن نقعد. نتابع الأخبار وننتظر أن يطلق سراح أبو أولادك فى ساعات، فإن لم يكن، فنحن متضامنون. وسواء كان أم لم يكن فسنظل على طريق ثورتنا.