عن التنوع الاقتصادى وسلال البيض
محمود محي الدين
آخر تحديث:
الأربعاء 22 فبراير 2023 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
من أكثر الأمثال الشعبية انتشارا فى ثقافات الشرق والغرب ما جرى على الألسنة بألا تضع كل البيض فى سلة واحدة، وهو ما ورد كنصيحة متواترة للرجل الحصيف فى الرواية الشهيرة «دون كيشوت» للأديب الإسبانى ميجيل دى ثيربانتس، التى صدرت منذ 4 قرون. وعلى خلاف ذلك تماما، كتب الأديب الأمريكى مارك توين بأن توزيع البيض فى عدة سلال بعثرة للمال وتشتيت للاهتمام، والأحرى بالرجل الحكيم أن يضع البيض فى سلة واحدة ثم يراقبها بعناية.
ما هى الأسباب وراء هذا التناقض؟ وما علاقة ذلك بالتنوع الاقتصادى، وهو من شأن الدول؟ دعونا نتفق فى البداية أن هذه الأمثال الشعبية عن توزيع المخاطر تعانى مما يعانيه كثير من الأمثال الشعبية المتوارثة، من أنها تأتى حاملة لدلالة معينة فتجد عكسها فى أخرى. ولترجع مثلا لكتاب أحمد تيمور باشا عن الأمثال، فيصعب أن تجد مثلا شعبيا نصح بأمر ليس له ما يقابله ويدحضه، ولهذا وجب أن توزن الأمور فى سياقها ومحاملها المختلفة وأن يستعان دائما بالدليل العملى والبرهان المنطقى.
وفى مجال تنويع المخاطر يقول المستثمر الأشهر وارين بافيت إن التنويع المتسع لمحفظة الاستثمار استراتيجية ليست سيئة لمن يدرك أنه لا دراية له بالسوق، فيشترى أسهما من قطاعات متعددة أو يشترى مؤشرا عاما من مؤشرات السوق، وفى هذا اعتراف عملى بعدم المعرفة بالسوق. وفى أطر الاحتراف والتخصص تضرب الأمثلة بقوائم الأثرياء التى تصدرها مجلة فوربس وغيرها لتشير إلى أن مصدر الثروات يأتى بالتركيز والانقطاع لنشاط واحد، وليس بالضرورة التنوع. وهو ما يذكره المستثمر الأمريكى تشارلز منجر، شريك وارين بافيت، بأن الساعين للربح فى وقت أقل عليهم بالتخصص بل التخصص الدقيق أيضا، ولتنظر مثلا لجراح عرف فى مجاله بتخصص معين لا يباريه فيه أحد، فيلجأ إليه المرضى بمقابل مرتفع لخدمته المتخصصة التى اشتهر بها. لكن هذا الجراح معرض لقيد زمن العمل اليومى الذى لا يمكن تجاوزه، وهو معرض أيضا لمخاطر المهنة والمنافسة إذا لم يستطع مواكبتها، فعليه أن يتحوط ضد هذه المخاطر باستثمار إيراداته فى مجالات لا ترتبط مخاطرها بمخاطر عاملها، وعليه أن يستعين بمحترفين فى الإدارة إذا أراد التوسع، ولو كان هذا التوسع فى مجال عمله واحترافه.
بذكر مجال الطب والجراحة، عاصر كاتب هذه السطور نماذج كان يشار إليها بالبنان فى مجال تخصصها، بنت شهرتها المستحقة فى عيادات صغيرة تقوم على الخبرة والاجتهاد فى العمل وعلى معاونين محدودى العدد من هيئة التمريض والمساعدين، فلما أرادوا استغلال شهرتهم بالتوسع ببناء مستشفيات كبرى باء بعضهم بفشل ذريع لسوء إدارتها، ومنهم من انطلق انطلاقات كبرى بمستشفياتهم الناجحة، بفضل إدارتها المحترفة. وبهذا تجد سيادة منطق بدهى بالاستعانة بمتخصصين آخرين فى مجالاتهم كروافع أساسية يفشل من دونها العمل عند توسعه. ومن أفضل نصائح تشارلز منجر هى ألا تتبع نفس طريقه إذا أردت النجاح! فالخلاصة إذن أنه ليست هناك نظرية عامة أو نموذج شامل كامل يحتذى بلا تطويع أو تعديل. ففى مسالك التقدم تنوع لا يحتمل التقييد بنهج ربما نجح فى زمن ولكنه يعانى من الفشل فى زمن آخر، وربما توافقت طريقة عمل مع استعدادات وميول شخص بعينه وتنافرت مع آخر. وهذا كله لا يخالف فى جوهره ثوابت النجاح من شروط التوكل لا التواكل وهى التعلم والاجتهاد وبذل الجهد والسعى طلبا للتوفيق، وإذا ما تصادف إنجاز نجاح ظاهر من دون هذه الشروط فهى استثناءات وإن تعددت حالاتها، فإذا طغت هذه الحالات الشاذة انتشارا فهى من مظاهر الاضمحلال المؤدى لنهايات مفزعة إذا لم يتم تداركها مبكرا، فهكذا أنبأتنا سير الأمم الغابرة.
وإذا ما انتقلنا من أحوال الأفراد إلى شأن اقتصادات الدول، فنحن فى عالم شديد التغير، وينبغى التحوط والاستعداد للمتغيرات المفاجئة ببدائل متنوعة. والتنوع الاقتصادى لا يتناقض مع المزايا النسبية واحترام قواعد التخصص وتقسيم العمل رفعا للإنتاجية، وهو ما نوه به آدم سميث صاحب كتاب «ثروة الأمم» الصادر فى عام 1776. وعلمنا من تجارب تقدم الأمم وتخلفها أيضا أن التنمية المطردة تستلزم استثمارا مطردا ونموا متراكما، وهو لا يعتمد بالضرورة على ثروات طبيعية، فمن أفضل التجارب المعاصرة للنمو والتنمية ما كان من شأن سنغافورة وكوريا الجنوبية الفقيرتين فى منح الطبيعة، والغنيتين بتفوق رأس المال البشرى والاستثمار فى البنية الأساسية المتقدمة وعوامل التقدم الأخرى كحوكمة المؤسسات وانضباط السياسات العامة والتنسيق بينها والتوجه الرائد للاستثمار والتصدير، والتنوع الاقتصادى رغم محدودية الموارد.
وهناك اهتمام متزايد بالتنوع الاقتصادى لاعتبارين؛ الأول ارتباط التنوع الاقتصادى بارتفاع متوسط الدخول ونموها فى البلدان الأقل دخلا، ومتوسطة الدخل، ثم تنزع بعد حد معين من متوسطات الدخل الأكثر ارتفاعا إلى التركز. والاعتبار الثانى لارتباط التنوع بالقدرة على التعامل مع الصدمات وتوسيع مصادر الدخل وإيرادات الموازنة فى البلدان الأكثر اعتمادا على مصادر محدودة عرضة للتقلبات والصدمات، مثل السلع الأولية فى البلدان الأفريقية والنفط فى الدول الخليجية والسياحة فى الجزر الصغيرة، بما يتطلب برامج للتحديث وإعادة الهيكلة ورسم أولويات الاستثمارات الجديدة على النحو الذى تراه فى رؤى 2030. وقد صدر هذا الشهر تقرير يحدث المؤشر العالمى للتنوع الاقتصادى، الذى يعتمد على 3 مكونات لمدى تنوع كل من الناتج، والتجارة الدولية، والإيرادات الحكومية.
التقرير صادر عن كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية، بالتعاون مع خبراء من البنك الدولى وصندوق النقد الدولى ومنظمة التعاون الاقتصادى والتنمية والأونكتاد، ومراجعة عدد من الخبراء المرموقين. وتم تدشينه فى القمة العالمية للحكومات بدبى. ويرصد التقرير استمرار الولايات المتحدة الأمريكية والصين وألمانيا فى صدارة المؤشر. ويرصد التقرير أيضا أثر جائحة «كورونا» السلبى على التنوع الاقتصادى ومدى الاعتماد على مرونة السياسات فى التصدى لها، وما ولّدته هذه الصدمة الصحية من بوادر لمزيد من التنوع الاقتصادى لتقليل أثر الصدمات مستقبلا.
وأفرد التقرير جانبا منه لتحليل أداء الدول المنتجة للسلع الرئيسية كالنفط والمنتجات الأولية الزراعية، ومدى تقلب نموها الاقتصادى وإيراداتها وتجارتها مع زيادة أوزان اعتمادها على هذه السلع. ويشير التقرير إلى أنه رغم كون الدول الأكثر اعتمادا على قطاع الاستخراج من الأغنى عالميا فإن استراتيجيات التنوع الاقتصادى تحتل مقدمة اهتماماتها. وفى حين لم تشهد دول أفريقيا، جنوب الصحراء، المنتجة للسلع الأولية والاستخراجية تحسنا فى مؤشرات التنوع الاقتصادى، فإن دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا شهدت تسارعا فى التنوع. وعلى مدى الفترة من 2010 حتى 2021 تجد بلدان مجلس التعاون الخليجى فى تحسن نسبى، من خلال التحول الرقمى، وزيادة دور القطاع الخاص، والإصلاحات الهيكلية التى شملت سوق العمل، وزيادة الإيرادات العامة غير النفطية، خاصة من خلال ضرائب القيمة المضافة. وأوضحت الصدمات المتوالية منذ الجائحة وما تلاها من مربكات فى سلاسل الإمداد وتقلبات أسعار السلع الأساسية والنفط، ثم ما كشفته حرب أوكرانيا من انكشاف الاقتصادات الأوروبية لاعتمادها بأكثر من 40 فى المائة على الغاز الطبيعى الروسى، وإفراط اعتماد دول عربية وأفريقية على الحبوب والزيوت المستوردة من طرفى الحرب الأوكرانية ــ ما وصفه رئيس الوزراء الإيطالى السابق بإيجاز بأنه «لم يكن عدم التنوع من الحصافة». وإذا كان التنوع الاقتصادى بات بديهيا لما يتجاوز الاعتبارات الاقتصادية إلى أسس الاستقرار الاجتماعى والأمنى والسياسى، فإن كيفية تحقيق هذا التنوع والتوصل إلى ما يمكن اعتباره المركز التوازنى المثالى للتنوع الاقتصادى يتطلب استثمارا فى البشر والبنية الأساسية وتمتين قطاعات الاقتصاد والمجتمع للصمود ضد الصدمات. ومع تحديات وفرص العصر الرقمى وما تفرضه الاستدامة من متطلبات وما تمنحه من إمكانات، تجد البلدان العربية ملزمة أكثر من أى وقت مضى بتحفيز الاستثمار دفعا لتنافسيتها، وتخفيض تكاليف التجارة استيرادا وتصديرا، وتبنى نظم شاملة للتحول الاقتصادى نحو منتجات وخدمات المستقبل، متحررة من قيود التراخى للإبقاء على منتجات تقليدية انصرف عنها الطلب المحلى والخارجى، وتفعيل كفاءة الأسواق وفاعلية الرقابة عليها. وفى هذا العالم سريع التغير، تتجلى عوائد الاستثمار فى البشر والأفكار لتحقيق التقدم.