كتاب يبعث أصوات التاريخ

محمود عبد الشكور
محمود عبد الشكور

آخر تحديث: السبت 22 فبراير 2025 - 8:15 م بتوقيت القاهرة

يمكننى أن أضع هذا الكتاب المترجم بين أفضل كتب هذا العام، بل لعله من أبرز الكتب التى تتناول التاريخ الاجتماعى والثقافى والاقتصادى المصرى، بمنهج مختلف وعميق، لأنها تراه من زاوية أشياء قد تبدو عابرة وعادية، بينما هى تدل على تغيراتٍ جذرية فى إنتاج الثقافة المصرية، وقبل ظهور عصر الفضائيات والإنترنت بسنواتٍ معتبرة.

 


الكتاب الصادر عن دار الشروق بعنوان «إعلام الجماهير.. ثقافة الكاسيت فى مصر»، ومؤلفه المؤرخ الأمريكى آندرو سايمون، المتخصص فى مجالات الإعلام والثقافة الشعبية والشرق الأوسط، وقد ترجم الكتاب بدر الرفاعى بما يستحق من دقة وشمول وسلاسة، أما موضوعه فهو دراسة ظاهرة الكاسيت فى مصر، منذ صعودها فى السبعينيات، واستمرارها مسيطرة ومؤثرة فى الثمانينيات، وصولًا إلى تراجعها بعد ذلك، لتفسح المجال لوسائل أخرى.
يبدو الكتاب بجهد مؤلِّفه الفذ، وبمنهجه الفريد والمحكم، نموذجًا لسرد التاريخ من أسفل، عبر الثقافة الشعبية، وعبر مصادر غير رسمية، يطلق عليها آندرو «أرشيف الظل»، فقد ابتعد عن السجلات الرسمية، وأخذ يقتفى ظاهرة الكاسيت من خلال الشرائط القديمة، والصور والأفلام والمقابلات الشخصية، وقام بقراءة هذه الظاهرة اجتماعيًّا وثقافيًّا واقتصاديًّا وفنيًّا، بل وقانونيًّا وسياسيًّا وجنائيًّا، على صفحات مجلات مهمة ومؤثرة، مثل «روز اليوسف» و«آخر ساعة».
كان الحصاد مذهلا حقًّا، لأن آندرو بعث «صوت التاريخ» نفسه عبر هذه الرحلة الطويلة التى تشهد له بالشغف، وبالنظرة الثاقبة الذكية والعميقة لمصر وأهلها، قبل أن تشهد له بامتلاك أدوات الباحث المتمكن.
من خلال أجهزة الكاسيت، وشرائطها التى ابتكرتها شركة فيليبس الهولندية فى العام 1963، يعيد الكتاب قراءة تاريخنا كله، حيث يربط الظاهرة بتحول مصر فى منتصف السبعينيات إلى الانفتاح الاقتصادى، وبهجرة المصريين الكبرى فى تلك السنوات أيضًا، سواء إلى ليبيا والعراق، أو لدول الخليج فيما بعد، ثم تأثير سهولة استخدام الكاسيت، وقدرة أى شخص على التسجيل والنقل والتوزيع، على الانقلاب الكامل فى عملية إنتاج الثقافة، التى كانت تتجه عبر السلطات الرسمية من أعلى إلى أسفل، لنصبح أمام قدرة الجماهير على الإعلام، وانتزاع المبادرة من حراس الثقافة والفن والدين، بل وتقديم روايات تاريخية موازية ومضادة لما تقدمه هذه السلطة.
عشت هذه الثورة طفلًا، وكتبتُ فى كتابى «كنت صبيا فى السبعينيات» عن أول مرة أحضر فيها خالى جهاز الكاسيت إلينا فى الصعيد، وكيف طلب من أمى أن تسجل بصوتها رسالة لأخواتها فى القاهرة، وتحدثت عن ارتباط عودة العاملين الصعايدة فى ليبيا، باقتناء أجهزة الكاسيت، وفانلات «الهلنكة»، وظهور أغنية شهيرة تسخر من هؤلاء العائدين، تقول: «وآدى الليبى حضر/ جابله مسجل وانكسر»!
فى كتاب آندرو استقصاء كامل لثورة الكاسيت هذه التى دعمتها الهجرة، وقد أشارت تقديرات إلى أن عدد هؤلاء العمال وصل فى العام 1975 إلى نحو نصف مليون مصري، وبما يعادل 25 ضعف عدد العاملين المصريين فى دول النفط فى الخمسينيات، ووصلت تحويلات العمال المصريين فى العام 1979 إلى أكثر من 2 مليار دولار، وهو ما يعادل ثلاثة أضعاف عائدات قناة السويس.
وجدت تلك الثورة دعمها الكبير أيضًا من خلال فتح أبواب الاستيراد بعد سياسة الانفتاح، ونتيجة ظاهرة «تجار الشنطة»، وتهريب أجهزة الكاسيت عبر المنطقة الحرة فى بورسعيد، بل ووجود شارع شهير فى قلب القاهرة، هو «شارع الشواربى»، لبيع البضائع المهربة.
يتابع الكتاب بعد ذلك تصنيع هذه الأجهزة فى مصر، وحملات الدعاية التى ربطتها بالحياة العصرية الحديثة، وباقتناء المشاهير لأجهزة الكاسيت، من لاعبى الكرة (محمود الخطيب)، والفنانين (عبد الحليم حافظ)، وصولًا إلى رأس الدولة وقتها الرئيس السادات، وصور هؤلاء مع أجهزة الكاسيت تملأ صفحات الكتاب.
استوعبت الشرائط كل شىء، وكسرت احتكار الإذاعة والتليفزيون للغناء، وشهدت السبعينيات صعود أحمد عدوية الذى حققت أغانيه مبيعات أعلى من عبد الحليم حافظ، وفشلت القوانين فى السيطرة على تزوير شرائط المطربين الكبار، وتكاثرت شركات الكاسيت من عشرين شركة مشهورة قبل 1975، لتقفز إلى 365 شركة عام 1987، وترتفع بعد ثلاث سنوات إلى 500 شركة، بالإضافة إلى مئات الأفراد الذين يقومون بالتسجيل والطبع والتوزيع بمعرفتهم، من الإسكندرية إلى أسوان.
تفككت القبضة المركزية تحت هذا الطوفان الاستهلاكى، وفشلت حملات حماية الذوق العام فى السيطرة على سوق الكاسيت، وبينما كانت أجهزة الدولة ترحب بنيكسون فى زيارته التاريخية لمصر فى العام 1974، كان عشّاق نجم وإمام، يسجلون ويستنسخون عددًا لا نهائيًّا من أغنيتهما الشهيرة «شرّفت يا نيكسون بابا»، التى تقدم سردًا مضادًا يدين الزيارة، عبر شريط كاسيت صغير.
وبينما كانت الصحف والمجلات مليئة بالسخرية من أغانى الكاسيت التى لا معنى لها، كان رجلٌ واحدٌ فى حجرة صغيرة يمكنه أن ينتج شريطًا، ويوزعه مجانًا على سائقى الميكروباص، فتسمعه فى كل مكان.
وبينما كانت السلطات الدينية تراقب كل شريط يتضمن خطبًا دينية، أو تلاوة قرآنية، كان معجبو القارئ الشيخ عنتر يسجلون له فى مناسبات العزاء قراءات أبعد ما تكون عن القراءات المتفق عليها، وكان المعجبون بالشيخ كشك يسجلون خطبه الانتقادية فى مسجد عين الحياة بدير الملاك.
صرنا أمام تدفق للإنتاج الثقافى والإعلامى من أسفل إلى أعلى، وأصبح السؤال يدور حول من يمتلك القدرة على تحديد الثقافة وصنعها وإنتاجها، وهو سؤال خطير انتقل بدوره إلى زمن الفضائيات والإنترنت.
من «سور الأزبكية» إلى «أكشاك بائعى الكاسيت»، أعاد آندرو رؤية تاريخنا القريب بالعمق بكل براعة واقتدار، لدى فقط ملاحظة واحدة، فكون عبد الوهاب وأم كلثوم وغيرهما قد صاروا عناوين «الفن الرسمى»، فذلك لا يعنى أنهم نقيض الثقافة الشعبية، بل لقد صاروا رسميين استغلالًا لشعبيتهم، وكلهم أيضًا بدأوا من أسفل إلى أعلى.
تاريخنا ثرى حقًّا، وهذه الدراسات العظيمة، تجعلنا نعيد اكتشافه من جديد.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved