قالت ضحى

بشير عبد الفتاح
بشير عبد الفتاح

آخر تحديث: الإثنين 22 مارس 2021 - 8:05 م بتوقيت القاهرة

ما ذلك العنوان بالمستغرب من قبل ذوى الميول الإبداعية، أو أصحاب الاهتمامات الأدبية، كونه مستوحى من ذلك الذى أطلقه الروائى المرموق، بهاء طاهر، على رائعته الأدبية الخالدة «قالت ضحى»، التى صدرت لأول مرة عام 1985، وترجمت إلى لغات أجنبية عديدة، بعدما نسج خيوط ملحمتها المتميزة من تفاعلات جدلية الحب والسياسة، التى تنهك إنسان العصر الحديث وتحاصر مشاعره.
فعبر تماس دقيق وساحر بين التداعيات السياسية التى تمخضت عنها ثورة يوليو 1952، وقصة الحب الرومانسية التى جمعت موظف الطبقة الوسطى، المتلهف لحراك اجتماعى يرتقى بأوضاعه، و«ضحى» الأرستقراطية، التى عصفت بها رياح التغيير، فسلبتها جل ما تملك، تحاول الرواية تبيان مدى تأثير الزلزال الثورى على المجتمع المصرى، بمختلف شرائحه وطبقاته، من خلال إبراز الفساد المستشرى فى جنباته، وكشف غموض الدولة العميقة، والإبحار فى أعماق النفس البشرية بقصد الوقوف على رؤية الإنسان لذاته، ومحاولاته الحثيثة لفك طلاسمها، قبل الانشغال غير المجدى بتعقب الآخرين وفك شفرات ذواتهم. ودونما مواربة، تعرى الرواية هشاشة بعض المثقفين، وتخليهم عن مبادئهم، تحت وطأة الصراع الضارى بين التعلق بتلابيب العدل الاجتماعى المستعصى، والدوران العبثى فى فلك الحب المتعثر، بكل ما يطويانه من سطوة وتأثير لا يتواريا عن مخيلة الإنسان، مهما تعاظمت قوته أو تنامت رغبته فى التحرر من ربقتهما.
بعد مضى زهاء ستة عقود على تجربة ضحى يوليو 1952، كان صاحب هذا المقال على موعد مع إشباع ناظريه بمحيا «ضحى» الألفية الثالثة، ليدركا سويا ثورة 2011 بموجتها الثورية التصحيحية عام 2013، ولتجد «ضحى» الأخرى نفسها محاطة بسيل جارف من التطورات المتلاحقة والتغيرات الحياتية المتسارعة الإيقاع فى زمن لا ينتظر. ففى منتصف العقد الأول من القرن الحالى، وفى خضم موجات العولمة العاتية وعواصف ثورة الاتصالات والمعلومات العارمة، أقبلت «ضحى» الجديدة، فإذا بى وقد غمرتنى السعادة، واعترانى شعور تعجز عن وصفه أبلغ العبارات، بينما اتسمع طربا أولى وأرق كلماتها التى تناضل للتفوه بها بصوت عذب أخاذ، بينما لا تزال فى المهد، ولم تتم بعد شهرها السادس.. «بابا».
ولكم احتدم الجدل بين العامة وأهل الاختصاص على السواء، حول سر استهلال الوليد للكلم بهذا اللفظ الرقراق دون سواه. فبينما يرجع علماء الصوتيات الأمر إلى سهولة نطق الأطفال فى هذا العمر لحرف الباء، الذى هو مفتتح كلمة «بابا» بدرجة أعلى من حرف الميم، الذى هو بداية كلمة «ماما». وهو التأويل الذى يميل إلى تبنيه كاتب هذه السطور، يجنح خبراء الصحة والتربية لتفسير آخر، ينصرف إلى محورية دور الأب داخل الأسرة، مما يتيح للطفل الاستماع مرارا لكلمة «بابا» من أمه التى يلازمها طوال الوقت، حتى يستقبلا الأب سويا فور عودته من العمل بكلمة «بابا»، مما يساعد الوليد على تسجيلها وإعادة ترديدها بمجرد أن يتسنى له النطق.
من خلال نظريته عن «الفجوة بين الأجيال»، حاول عالم الاجتماع الألمانى كارل مانهايم، تسليط الضوء على تلك الفجوة، مرجعا إياها إلى اختلاف الآراء بين جيل وآخر لجهة المعتقدات والسياسات أو القيم، بما يعوق التقارب أو التفاهم بينهما، مع وجود فجوة زمنية، تخلف تبعاتها على الوعى وأسلوب التعبير، ومنهج التفكير، ونوعية الاهتمامات. وعبر نظريته عن «الوعى الجيلى»، درس مانهايم تأثير التغير الاجتماعى فى إدراك أبناء جيل واحد لخصوصية وجودهم وسط مجموعة مختلفة يمكن تمييزها عن طريق القيم والاهتمامات المشتركة، بما يشكل وعيهم الجيلى، الذى يؤثر على نمو الفرد، ويمكنه من بلورة تفسيراته الخاصة عن العالم.
انطلاقا من هاتين النظريتين، اندفعت كآباء كثر، قد تسول لهم أنفسهم الادعاء بأنهم على شىء من المعرفة والخبرة، ربما بحكم العمر، أو التعليم، أو العمل، أو تراكم التفاعلات الحياتية، وتعدد الأسفار، لتجسير الفجوة الجيلية بينى وبين «ضحى» منذ وعت، عبر محاولاتى المتوالية واللحوحة كى أكون صديقا، أملا فى تذويب فوارق فكرية وتجاوز سياقات اجتماعية وعُرفية انتصبت بمرور الزمن بين جيل السبعينيات وجيل « Z»، أو الألفية الثالثة.
أتفهم معاناة «ضحى» جراء الأعراض الجانبية لتطوير التعليم خلال المرحلة الثانوية، لاسيما التحول من وضع سابق يألف الحفظ والتلقين، وآخر بازغ ينشد الإصلاح عبر توسيع مساحة الفهم وأفق الإبداع، بموازاة العمل على توفير جميع المتطلبات الضرورية لإنجاحه، خصوصا البنية التكنولوجية اللازمة للتعليم عن بعد فى الظروف الاستثنائية كجائحة كورونا، مع مراعاة التناغم الذهبى ما بين المناهج الدراسية، وأسلوب التدريس، ونظام الامتحانات وتقويم كفاءة الطلاب وتقرير مدى جهوزيتهم للالتحاق بالجامعات وفقا لمبدأ التوازن بين الرغبات والقدرات، وصولا إلى ربط التعليم بمتطلبات سوق العمل. وبينما أحاول إقناعها بأن هكذا ارتباكات ربما تكون سمة ملازمة لعمليات التطوير بغالبية المراحل الانتقالية فى كل زمان ومكان، تأبى المثقفة الواعدة إلا التشبث بحقها فى الإدلاء بدلوها فى تقرير مصير جيلها، متمنية أن يستمع القائمون على أمر التعليم إلى انطباعات وتصورات الطلاب بشأن ذلك النظام الجديد، للاستنارة بآرائهم وملاحظاتهم، حتى تتحقق الاستفادة المثلى للأجيال القادمة، وتتأتى الغاية المرجوة من جهود الإصلاح ومساعى التحديث.
أبهرتنى «ضحى» مرتين: تجلت أولاهما فى ميولها الأدبية لكتابة القصص القصيرة، بموهبة فطرية تحبو بتؤدة وحذر صوب إدراك زمنها النموذجى الإبداعى. فيما تمثلت ثانيتهما فى إقلالها المحير والمبهج فى آن من الكتابة، والتسامى عن الانزلاق إلى دوامة إدمان وسائل التواصل الاجتماعى، مستغرقة فى القراءة، حيث لا تتوانى الأديبة الناشئة عن تلبية النهم المتواصل لمتابعة الحركة الإبداعية، واقتناء أحدث الأعمال لأشهر الأدباء المصريين والعرب والأعاجم، بما يثقل موهبتها، ويستنفر نزعاتها الإبداعية، ويعزز أدواتها وقدراتها التعبيرية، توطئة لولوج زمن النضج الإبداعى القصصى. ولطالما عكفت على تذكيرها بمقولة الشاعر الإنجليزى ت. س. إليوت، بأن الأديب، يستطيع أن يتكئ على عواطفه الجياشة ونزوعه الغنائى حتى منتصف ثلاثينيات عمره، لكنه واقع، لا محالة، فى شرك الضحالة والإنشاء والدوران حول النفس، ما لم تعتصم كتاباته اللاحقة بالعمق المعرفى والرؤيوى.
رغم حداثة سنها، تجنح القصصية الناهضة لإدارة موهبتها فى الكتابة السردية بنفسها، قدر استطاعتها. حتى أننى لم أستفق من معاتبتى القاسية لذاتى جراء استباق أمها فى اكتشاف ذلك الاستعداد الإبداعى، إلا على وقع محاولاتها العنيدة لسبر أغوار عالمها بقدراتها الذاتية، وبناء معارفها بأدواتها وأساليبها الخاصة، حتى تهاوت جل جهودى لاقتراح روايات ومؤلفات بعينها للقراءة، أو إطلاق دعوات للتأمل، أو فتح حوارات فكرية حول قضايا وموضوعات بعينها، أمام النزعة الاستقلالية الملحة. فما برحت ابنة الستة عشر ربيعا تنشد الانفراد بصياغة وجهات نظرها وبلورة رؤيتها الخاصة أو نموذجها التفسيرى لكل ما حولها، بغير ارتكان على رصيد والدها المتواضع فى هذا الصدد، إلا فى أضيق الحدود، حتى أننى لم أجن من عرض المساعدة إلا قبض الريح. وبقدر غبطتى بتلك العزيمة الصلبة فى الاعتماد على النفس، بقدر ما انتابنى شىء من القلق لجهة الجنوح المتسارع للاستقلالية والإصرار الجامح على مبدأ «إثبات الذات»، الذى نظر له الفيلسوف ومؤسس علم النفس الأمريكى ويليام جيمس، ضمن سياق دراسته الرائدة عن «الذات» عام 1890، والتى غدت مرجعا لما عرف لاحقا بعلم نفس الشخصية.
يبدو أن عالمنا يتغير بوتيرة أسرع مما نظن، حتى غدا تجسير الفجوات الجيلية الأجيال لتوثيق عرى التواصل بين الأجيال، أمرا ليس بهين، حيث يستوجب عملا دءوبا وإبداعا لا يتوقف، مصحوبين بصبر وجلد ومرونة، وتوطين للنفس على التسامح وسعة الصدر، وتفنن فى إطلاق مسارات للتفاهم وأقنية للحوار، وبناء جسور للثقة. وقبل ذلك وبعده، استعداد تام للاستماع وتقبل الرأى الآخر، مهما كان غريبا أو مختلفا أو حتى بسيطا. فما عاد الصوت العاكف أبدا على توجيه النصائح وفرض الإملاءات والينبغيات، وسيلة مثلى للتفاعل الخلاق مع كائنات تكافح لاستيعاب الثورة المعرفية الجبارة، وإطلاق العنان، بغير قيود، للتفكير والتعبير والإبداع.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved