من الابتكار إلى الذكاء الاصطناعى.. وبالعكس..!
محمد عبدالشفيع عيسى
آخر تحديث:
الجمعة 22 مارس 2024 - 12:25 ص
بتوقيت القاهرة
لولا اعتبارات المساحة المخصصة لصفحات هذا المقال (وعدد كلماته..!) لكان عنوان هذا المقال (من النظام الوطنى للابتكار إلى الذكاء الاصطناعى العالمى..! وبالعكس..!). نحن لا نقصد هنا الابتكار فى حد ذاته بالرغم من الأهمية المنوطة به على كل حال. وإنما نحن نقصد تحديدا (النظام الوطنى للابتكار) أو لعله: (المنظومة الوطنية للابتكارNational System of Innovation) وذلك يدعونا إلى نقطة البداية، فى الابتكار. وما الفرق بينه وبين ما يلتبس معه من ألفاظ ومعان..؟
أول ما يلتبس مع الابتكار، الاختراع: invention وأول ما يتميز به الاختراع عنصر (الجدة) Novelty فهو شبيه بتعريف المادة فى علم الفيزياء: (المادة لا تفنى ولا تستحدث) وهى لا تنشأ من العدم..!
هى لا تستحدث استحداثا، وإنما لابد أنها موصولة بما سبقها فتتولد عنه، ومن ثم، برغم تميزها عن غيرها، فهى لا تنشأ من (اللا شىء) أو (العدم) ..!
كذلك الابتكار، لا يقوم من الفراغ، ولكن مما يسبقه من أعمال الولادة والتطوير.. وربما كان المفكر الاقتصادى (جوزيف شومبيتر: 1883ــ1950) أول من أدخل هذا المصطلح بقوة إلى الأدبيات الاقتصادية المعاصرة، وخاصة من خلال كتابه الشهير الموسوم: (الرأسمالية والاشتراكية والديموقراطية) الصادر عام 1942.
وفقا لشومبيتر، إن الابتكار هو نوع من التطوير، يلحق إما بتطوير المنتجات (أى إيجاد منتج أو سلعة جديدة) وإما بتطوير «العمليات الإنتاجية»، أى استحداث طريقة جديدة لإنتاج السلعة. وفى الحالتين، هو يؤدى إلى تسريع النمو الاقتصادى، ومن ثم زيادة الناتج ورفع «الإنتاجية»، وهنا يكمن سر «التقدم الاقتصادى».
أما الاختراع فهو ينشئ «السلعة» أو «العملية» إنشاء، ويترتب على ذلك حق قانونى لصاحب الاختراع، فيما يعتبر من قبيل (الملكية الفكرية) ومنها (حق المؤلف). الاختراع من ثم يرتبط باسم شخص أو «مجموعة من الأشخاص»، على عكس الابتكار، الذى لا يرتبط قانونا، باسم شخص، ولا يترتب له، فى حد ذاته، حق قانونى، كما أنه لا يعتبر سرا! بينما (الاختراع) تكون السرية secrecy عنصرا أساسيا فيه، بالإضافة إلى «قابلية التطبيق». وبرغم عدم سرية الابتكار، فإنه يمكن أن تنشأ عنه مزايا (مادية ومعنوية) للمبتكر، من حيث أنه غالبا ما يرتبط بما يسمى (سر الصنعة) knowــhow أى «كيفية» إنتاج السلعة أو «أداء الخدمة»، وتلك هى (المعرفة التكنولوجية) أو «التكنولوجيا» فى أحد تعريفاتها، باختصار.
وقد كانت الاختراعات هى عماد الثورة الصناعية الأولى (فى القرنين الثامن عشر والتاسع عشر) وربما ما قبلهما، وكان المخترعون قلة مبدعة، مثل: «أديسون»، مخترع المصباح الكهربائى (فى 21 أكتوبر 1879، ومن قبله «جيمس وات» (1736 ــ1819) مخترع أو محسن استخدام «المحرك البخارى».
وفى المقابل، فإن الثورات التكنولوجية التالية، حتى ما يقال له هذه الأيام «الثورة الصناعية الرابعة» أو «الخامسة» قامت وتقوم، أساسا، على الابتكارات التى تستحدثها مجموعات كبيرة، ومؤسسات منظمة، إذ لم يعد العلم فكرا متفردا، ولكنه نتاج اجتماعى موسع بحق. وهذا هو الحال فى أمريكا وأوروبا واليابان، وكذا فى الاتحاد السوفيتى (السابق) ..!
• • •
النهضة الصناعيةــ والتكنولوجية إذن، لم تعد تقوم على أفراد نوابغ، ولكنها تقوم على مجموعات واسعة، وجماعات ومنظمات، ومؤسسات. ومن ثم لم تعد الاختراعات مرتبطة بأشخاص متناثرين، ولكن بالمجتمع البشرى الحى بأكمله، حيث يكون المجتمع نفسه مجتمعا مبتكرا (بكسر الكاف)، ويكون مبثوثا فى جميع أرجاء المنظومة الاقتصادية ــ الاجتماعية. تكون الابتكارات بهذا المعنى مشتملة على إيجاد سلع وتخليق عمليات، ونشر «أسرار الصنعة» وإحداث تصميمات هندسية، إما أساسية، أو تفصيلية، وما كان يسميه المهندس الأستاذ (على نجيب) يرحمه الله، بإنشاء «العمليات الإنتاجية».
ولم يعد يتسنى لمجتمع من المجتمعات أن يحقق التقدم الاقتصادى المطرد إلا بحث الابتكارات، ونشرها فى كل مكان منه Dissimilation. لا بل إن هذا الحث والانتشار يأخذ شكل نظام متناسق، أو منظومة system ممتدة فى أركان المجتمع الأربعة، يمينا ويسارا وشمالا وجنوبا. وكم قدر لى حينما كنت فى مهمة علمية بجامعة (طوكيو ــ عاصمة اليابان) منذ سنين، أن أشاهد، وأقرأ عن الابتكار ومنظومته، ونظامه، كما قدر لى أن أقرأ ما يتعلق بذلك من دراسات فى بعض بلدان العالم الأكثر تطورا فى وقتنا (أمريكا وأروبا). ولقد امتدت الابتكارات، (مع الاختراعات ولا بأس..!) لتطال كل شىء فى البلدان المذكورة، حتى وصلت (عبر ما يسمى الثورة الرابعة) إلى التخوم المميزة لمنظومة بعينها هى منظومة «الذكاء الاصطناعى»، ذلك الذى يقوم على الاستفادة من «البيانات الضخمة» Big Data واستكناه أسرارها، وتوليد الأفكار والتطبيقات على أساسها، ليكون ذكاء توليديا، generative، وحيث يقوم بأداء العمليات البشرية، ويكون بديلا عنها، فى أحيان كثيرة، وبأفضل منها.
هذا ما يهدد بتوسيع (الفجوة التكنولوجية) بين البلدان الأكثر تطورا وبين البلدان النامية وتلك السائرة على طريق النمو، عبر الأتمتة automation، والرقمنة digitalization فى كل مجال من مجالات الحياة المعاصرة والتكنولوجيا: التكنولوجيا الحيوية، تكنولوجيا المواد، تكنولوجيا الفضاء، تكنولوجيا التصنيع.. وهلم جرا.
• • •
هكذا إذن اتصل الاختراع بالابتكار والذكاء التخليقى، فإلى أين نحن سائرون يا ترى..؟! هل إلى استحداث كائنات (مثل: «النعجة دوللى») وما تنبئ به مثلا...؟ أم إلى تخليق أدوات فكرية مكملة أو بديلة للمخ البشرى، كما يرى البعض..؟ أم هل نصل إلى عنان السماء، ومن فوق الكواكب ــ برغم عدم ثبوت وجود «حياة» فوق «المريخ» مثلا ــ وهل يتحول الإنسان إلى (غير الإنسان)..؟
هنا نجد أمامنا حائطا صلبا صلدا، لن نتجاوزه بحال، لأن تقدمنا ذاك، ينطلق ويندفع، وتستمر اندفاعته، بدون «أخلاقيات» موازية Ethics، كأخلاق إنسانية حقا، أو «مؤنسنة»، أو ما فوق ــ الإنسان العادى (سوبرمانيه)؟!
بدون تلك الأخلاق الإنسانية الرفيعة، سوف تصب الاختراعات والابتكارات وأنظمة الذكاء التخليقى، فيما لا يرتبط بالارتقاء الإنسانى الحق، فيزيقيا وروحيا، بل ربما سيصل الأمر ــبالضرورةــ إلى إحياء أو إذكاء نزعة القتال الغريزى لدى البشر، أو قسم من البشر، بما يبعث على إشعال الحروب وإذكاء نيرانها التى لا تخمد.. وهذا ما نشاهده بأم العين فى الآونة الحاضرة، ونلمسه، فى قاراتنا الأربع أو الخمس، كلما خمدت نار، لحقتها أخرى، حتى لتهدد بيوم القيامة البشرى، إن صح التعبير.
من هنا قلنا إننا لو اخترنا عنوانا بديلا لهذا المقال لقلنا (من النظام الوطنى للابتكار إلى الذكاء الاصطناعى العالمى، وبالعكس). ونقصد بكلمة (بالعكس) هنا أننا نأمل أن نعود بالذكاء الاصطناعى (وهو آخر كلمة قالتها التكنولوجيا والابتكارات والاختراعات) إلى نقطة البدء التى لابد أن تكون، وهى «الأخلاق» و«الأنسنة»، كجزء لا يتجزأ من المنظومة الوطنية الابتكارية بحق، بمعناها العريض العميق. ويكون النظام الابتكارى (أو المنظومة الابتكارية) وطنى الوعاء والمحتوى، أى الشكل والمضمون معا، بينما أن الذكاء الاصطناعى (فى حال عدم ارتباطه بوطنية الابتكار) يكون ذا طابع «عولمى» بحت، مكرس للفجوات التكنولوجية وعدم المساواة، و«التطور غير المتكافئ» بين الشعوب والأمم، على حد تعبير (سمير أمين). ولذلك قلنا منذ البدء: (نظام وطنى للابتكار) لنفرق بينه وبين مجرد الذكاء الاصطناعى «العالمى ــ العولمى».
وإن كانت أول علامات «الأنسنة» تهذيب نزعة «التدمير غير الخلاق»، ليحل محلها النزوع إلى البناء والارتقاء البشرى الحقيقى، وخاصة على الصعيد الروحى، فهل نستطيع حقا..؟
هذا ما نبتغيه ونأمله على كل حال.