في مستنقع الخطاب
خولة مطر
آخر تحديث:
الأحد 22 أبريل 2018 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
لم يعد من الممكن للعربي أو العربية أن يضعوا وجهة نظرهم أو تصورهم عن حدث ما دون أن ينالوا قسطهم من ردات الفعل الغاضبة وحتى هنا يبدو الأمر طبيعي فكما يقولون ويرددون الخلاف في الرأي لا يفسد للود قضية. إلا أن الأمر تعدى ذلك ومع السنوات الأخيرة سقط الحوار في مستنقعات من الانحطاط اللفظي والمعنوي حتى وصل إلى شكل من أشكال “اغتيال الشخصية” أي أن لا يكتفي البعض بالرد على الموقف نفسه بل يتعدوا ذلك للتجريح في صاحب الرأي وإذا كان امرأة فلا بد وأن ينزل عليها غضبهم ونظرتهم الدونية لها في التدخل في حياتها الشخصية تصورا منهم أن ذلك هو أكثر ما يمكن أن يثني هذه السيدة أو تلك عن الكتابة والتدخل في الشأن العام..
***
محزن حقا أن تقرأ وبشكل يومي عن معارك تخاض على شبكات التواصل الاجتماعي وبها الكثير من التجريح والتشويه إن لم يكن التخوين وهذه الأخيرة أصبحت سهلة جدا مع انطلاق البعض بعد ٢٠١١ وتصورهم أن الحرية تعني الشتائم وقتل الشخصيات وتقسيم البشر إلى معسكرات ووضع كل فرد في علبة معينة وكأنه من الصعب عليهم أن يتصوروا إن الإنسان قد يحمل الكثير من المواقف التي يبنيها على لحظة تاريخية معينة وإن من حق الفرد أن يختلف في رأيه عنهم كما من حقه أو حقها أن يغيروا آرائهم مع قراءات مختلفة لتطورات سريعة للأحداث.
***
كان التجريح والمعارك اللفظية خاصة بالفنانين والفنانات نتيجة تنافس وغيرة شديدة وهذا مفهوم إلى حد ما ، رغم أنه حتى عند الفنانين ليس من الواجب أن ينحدر المستوى اللفظي والحواري إلى أدنى شكل له خاصة وأن مجاميع عريضة من الشباب والشابات يتابعونهم ويلتمسون فيهم القدوة عندما سقطت كل أشكال الشخصيات التي شكلت قدوة لأجيال أو تم تشويهها عمدا ومع سبق الإصرار والترصد!!!!
***
قبل سنوات كان الكثيرون ينتقدون أشكال هذه الحوارات ويطالبون بتعميق الحوار والترفع عن صغائر الأمور وعن التجريح في الشخص نفسه بدلا عن موقفه، ولكن مع اشتداد التقسيم الذي تساهم فيه أجهزة وجيوش إلكترونية، انخفض الحوار إلى أسفل السافلين وكالوباء انتشر إلى كل الفئات حتى شريحة كان ممكن تصنيفها على أنها مثقفة وباحثة مسؤولة عن أخلاقيات المجتمع بحكم عملها أو تخصصاتها. وهنا أصبح من الضروري أن يبدأ “هاشتاج” كذلك الذي انتشر حول التحرش بالنساء يعارض مثل هذا الانحطاط ويرفض أن ينزلق له ويخرج عن أي مجموعة تبدأ في تجريح بعضها البعض والتطاول في الكلام والانخفاض بمستوى الألفاظ والتعابير واستخدام الكثير من المفردات التي لا يمكن تصنيفها سوى على أنها سوقية. فهذا أمر ليس بيد الحكومات والأنظمة ولكن بيد المواطنين ..الشباب والشابات المتطلعات إلى مستقبل أفضل تسوده الكرامة والعدالة والحرية، عليهم جميعا أن يبدأوا من الآن وإلا فقد سقطنا كسكان لهذه المنطقة التي تعرف على إنها عربية، سقطنا في منحدر لا بد وأن ينعكس علينا سلبا لأجيال وأجيال قادمة. فدون الأخلاق لا تنهض الأمم ودون احترام الرأي الآخر مهما اختلف معك ومهما تصورت أنه مناصر لشخص أو رمز أو عدو كان سبب في نكبة هذه الأمة إلا أن كل ذلك لا يبرر السقوط في مستنقع الألفاظ خاصة وأننا أمة عرفت الهجاء في الشعر والنثر قديما ولكنه كان دوما أبعد من وصفه بالإسفاف .
***
وما إن بدأنا في تقبل مثل هذه الألفاظ والعبارات والأوصاف في التجريح بالملوك والحكام والرؤساء حتى سقطنا مع شديد الأسف في وصف بعضنا بعضا بنفس تلك الألفاظ. وفيما يبرر البعض هذا بأن الحكام العرب لا يستحقون أكثر من “الشتائم “ وأقبح الكلمات، إلا أن مثل هكذا معارضة أو معارضات لا يمكن
أن تخلق غدا أفضل. فهي نفسها التي عادت وأصبحت تمارس ما كانت تنهي عنه وتعاني منه خاصة عندما كانت الأجهزة الأمنية في المنطقة العربية تساهم ضمن حملاتها على الشخصيات المعارضة أو المنتقدة لسياساتها بتشويه سمعتهم وسمعتهن ونشر ما يمكن أن يصور على أنه فضائح خاصة للنساء في مجتمعاتنا المحافظة والتقليدية جدا.
***
مؤخرا اشتدت بعض المعارك على صفحات التواصل ووصلت حتى إلى بعض الصحف وكلها لا تبعد عن التشهير بشاعر هنا وناشطة نسوية هناك ومعارضة سياسية أو موالية .. جميعهم ودون استثناء تعرضوا لشكل من أشكال “البهدلة” اللفظية والعلنية. فالشاعر الذي يعد من أهم شعراء المنطقة تعرض لأشكال مختلفة من النقد الذي قارب حد السخرية منه واتهامه بالاقتراب من الطبقة البرجوازية “الموالية” وغيرها من الأوصاف في حملة تبدو في أساسها غير مبررة فيما الحاجة ملحة أن نركز كل جهدنا على بناء مجتمع صحي وسليم يترفع عن الصغائر ولا يتطاول على الأدباء والشعراء والمثقفين بهدف التشويه والسخرية من الشخصية فقط لأنها لم تتخذ موقف من الأحداث السياسية في هذا البلد أو ذاك.
وفي حملة أخرى راحت جموع “الفيسبوكيين” والمغردين بكيل الشتائم والتجريح في حق شخصية نسائية قد لا نتفق معها في آرائها ومواقفها السياسية وتحولاتها المستمرة ولكن لا نستطيع إلا أن نبقي على الاحترام المتبادل خاصة وأن أوطاننا بمجملها تحترق وتلك التي لم تحترق بعد فهي ليست بعيدة عن الاشتعال القريب.
***
لا نهضة لنا ونحن في خضم هذه المعارك المستمرة والمتغيرة وكأنها النار مع هبات الرياح العاتية تحيلها يمينا وشمالا، لا نهضة لنا دون التوقف عن هذا الانحدار السريع في الأخلاق والقيم وأساليب الحوار وإلا فلا نهضة لنا حتى وإن أسقطنا الأصنام واحد بعد الآخر …