نشرت مؤسسة الفكر العربى مقالا للكاتب حسن الشريف، يقول فيه أن الحضارة الإنسانية تمر بتغيرات جذرية؛ اجتماعية واقتصادية وسياسية، لكن الأهم هو التطورات التكنولوجية. هذه الأخيرة أثرت بشكل عميق على الثقافات المجتمعية، وجعلت من الصعب اتخاذ القرارات سواء الفردية أو الجماعية (الدولية)... نعرض من المقال ما يلى:نعتبر الحياة بسيطةً عندما نستطيع إيجاد الرابط المباشر بين السبب والنتيجة، وعندما نتوقّع بشكل تقريبى قدرتنا على اتخاذ القرار وتنفيذه، وبالتالى نكون قابلين بالنتيجة. وتبدأ التعقيدات عندما تكتنف قدرتَنا على اتخاذ قرارٍ ما صعوباتٌ متزايدة، وتكون قدرتنا على تنفيذ القرار مرتبطة بعوامل متعدّدة خارجة عن سيطرتنا، وعندما يكون توقّعنا لنتيجة قرار ما نتّخذه ويتمّ تنفيذه، بعيدةً عمّا يحدث فعليّا، ونشعر بالتالى بالضياع والعجز.
طبعا يصحّ هذا القول ببساطة على الحياة فى ما يتعلّق بالعلاقات الاجتماعيّة وبالتفاعلات الاقتصاديّة والسياسيّة.. وبشكلٍ خاصّ عندما تكون هنالك آليّات بسيطة لتوقّع المستقبل فى العلاقات الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة. ويزداد التعقيد عندما تكون النواتج غير واضحة فى علاقتها بالأسباب، وعندما تزداد العوامل المؤثّرة فى الأحداث الاجتماعيّة والاقتصاديّة والسياسيّة، وبالتالى تزداد الصعوبة فى اتّخاذ القرار، وفى توقّع المستقبل، بخاصّة عندما تبرز دوائر ارتجاعيّة تربط مراحل الأحداث المختلفة ببداياتها، وتغيّر مجرى الأحداث، وتزيد من تعقيدات مجريات الأمور.
نلاحظ أنّ هذه العلاقات أخذت تزداد تعقيدا مع إدخال الإنسان المستجدّات التكنولوجيّة فى حياته اليوميّة. فالمستجدّات التكنولوجيّة كانت تساعد الإنسان على تحسين قدرته على توقّع المستقبل واتّخاذ القرار وتنفيذه، لكن مع الزيادة المطّردة فى هذه التكنولوجيّات وتطبيقاتها، أخذت تزداد الحلقات الارتجاعيّة، وبالتالى أخذت تزداد تعقيدات العلاقات بين المسبّبات والنواتج. وهذا يجعل المرء فى ضياع، وفى حيرة حول العديد من الأمور، ويجعله يشعر بفقدان المعايير وضبابيّة الحقيقة. وكلّ هذه الأمور قد تدفع الكثيرين نحو التمسّك بالغيبيّات والتوجّه نحو المعتقدات والقيم الأصوليّة.
• • •
على المستوى الشخصى، يواجَه الإنسان بمستويات من التعقيد المتزايد، ما يجعله فى كثير من الأحيان غير قادر على اتّخاذ القرار المناسب لمعظم المشكلات التى يواجهها، وإن اقتنع بحل ما قد يكون من المستحيل اتّخاذ كل القرارات الضروريّة للتنفيذ، بسبب ترابط مصير الفرد الواحد بمحيطه المجتمعى والسياسى، ما يجعل قدرة الفرد على اتخاذ القرار ضعيفة أمام ضغوطات المجتمع.
وبشكلٍ أكثر أهميّة تزداد التعقيدات أمام مجتمعٍ ما، وعلى المستوى العالمى، فى الوصول إلى القرارات المناسبة لمعالجة الصعوبات التى قد تواجه المجتمع، وبشكلٍ أكثر تعقيدا على مستوى القرار العالمى المُلزم. وبالتالى، من جهة يُلاحَظ غياب القرارات العامّة المجتمعيّة والدوليّة المناسبة لحلّ الإشكالات التى تواجه العالم، ومن جهة أخرى يعجز الفرد عن اتّخاذ القرار المناسب فى وجه الصعوبات التى تواجهه.
• • •
تمرّ الحضارة الإنسانيّة منذ نهاية الحرب العالميّة الثانية بتغييرات جذريّة على المستويات كافّة.. من اجتماعيّة واقتصاديّة وسياسيّة؛ لكن بشكل خاصّ فى إطار التكنولوجيا وتطبيقاتها. وهذه التغييرات تؤثّر بشكلٍ عميقٍ فى الثقافات المجتمعيّة فى مختلف البلدان والمناطق، وفى النظم الاقتصاديّة والاجتماعيّة والسياسيّة، وحتّى على النُظُم الطبيعيّة والبيئيّة، وتؤثّر بعمق فى القدرة على اتّخاذ قرارٍ ما وتنفيذه، سواء على مستوى الفرد أم الدولة، جهويّا وعلى امتداد العالم بأسره.
والأسباب المهمّة لهذه التغييرات الجذريّة هى، من جهة، التطوّرات التكنولوجيّة وتطبيقاتها، ومن جهة أخرى هذا التنامى المتزايد للعرق البشرى، من حيث العدد والممارسات والتداخل فى العلاقات.
• • •
مع تسارع التقدّم التكنولوجى «لتحسين حياة الإنسان» منذ مطلع القرن العشرين، ازداد إدماج وانتشار تطبيقات التكنولوجيا وتعقيداتها فى وظائف الإنسان الماديّة والإدراكيّة، داخل جسم الإنسان، بل ودماغه أيضا. وأصبح يصعب الفصل بين ما هو «داخل الإنسان» وما هو «خارجه»، بسبب تداخل الفكر والجسم فى الوظائف الإنسانيّة.
ويتّفق معظم خبراء التطوّر البشرى على أنّ «الأدوات» التى يستخدمها الإنسان كانت تتطوّر بشكل متوازٍ مع تطوّر دماغه، لأنّ القدرة التخيّليّة (الإبداعيّة) لصانع الآلة كانت أداة فاعلة فى تطوير الآلات والأدوات التكنولوجيّة المستجدّة. والتعلّم والتعليم عبر الأجيال، كانتا عمليّتين مهمّتين فى تطوير قدرات الدماغ البشرى، وبالتالى تمكّنه من إبداع المزيد من المستجدّات التكنولوجيّة.
وإذا راجعنا تاريخ البشريّة وتطوّرها، نلاحظ أنّ جزءا مهمّا من تطوّر جسم الإنسان وتفكيره، مرتبط بشكل مباشر بالآلات التى يطوّرها. كما نلاحظ أنّ هذه الآلات كانت تزداد تعقيدا مع الزمن، ويزداد تعقيد علاقة الإنسان بهذه الآلات.
التكنولوجيا والمجتمعمبكّرا لجأ الإنسان إلى تطوير نظم مجتمعيّة تزداد تعقيدا مع زيادة تعقيد الآلات والتكنولوجيّات التى يستخدمها. فالثورة الزراعيّة سهّلت نموّ المستوطنات البشريّة وأرست مفهوم الإدارة المركزيّة للمجتمع. والثورة الصناعيّة أسهمت فى تطوير نظام العلاقات المجتمعيّة بين مبدع الآلة ومموّل إنتاجها، والعامل الذى ينتجها، فى إطار يزداد تعقيدا.
وثورة الحاسوب تزيد التعقيدات بشكل مطّرد فى العلاقة المباشرة بين الإنسان والآلة، التى أخذت تتقاطع مع كلّ ما يفعله الإنسان؛ ومؤخّرا بدأت تتداخل فى جسم الإنسان نفسه، وبشكل يزيد من تعقيد علاقة المرء بجسده، وبالبيئة المحيطة به.
مستويات التعقيدات التكنولوجيّةيصنّف الخبراء مستويات التعقيدات إلى ثلاثة، تبعا لتأثيراتها فى الحضارة البشريّة. وقد يكون من الصعب الفصل بين هذه المستويات لتداخلها وتفاعلها فى ما بينها:
المستوى الأوّل يكون على مستوى السلعة الواحدة وتطبيقاتها، كما نلاحظ فى التطوّرات الهائلة التى جرت وتجرى على مستوى السيّارة والطائرة والهاتف المحمول.
ويكون المستوى الثانى فى ترابط السلع فى نظم معقّدة، تكنولوجيّة واقتصاديّة واجتماعيّة. فالسيّارة تتفاعل مع الطرق والجسور وقوانين القيادة والسير، وشبكات الوقود... إلخ. والطائرة تتبع الشركات التى تُشغّلها والمطارات وقوانينها وتعقيداتها، وشركات السفر والسياحة... إلخ.
وأخيرا يكون المستوى الثالث فى ترابط النُظُم والتفاعلات على مستوى كوكب الأرض، مثل التغيّر المناخى الناتج عن الأنشطة البشريّة، والتغيّرات الهائلة فى منظر الطبيعة بنشر متطلّبات الحضارة البشريّة (مثل شبكات الطرق والجسور والمطارات والموانئ وتشابك العلاقات الاقتصاديّة والتكنولوجيّة)، بحيث أصبحت الكرة الأرضيّة كلاًّ مترابطا، ما يؤثّر فى موقعٍ منه ينسحب فى تأثيره على الكرة برمّتها.
ثورات فى التواصل الاجتماعىمع هذا التطوّر فى علاقة الإنسان بالآلة، ظهرت تطوّرات موازية فى ما يُعتبر ميزة للإنسان على غيره من الكائنات الحيّة: القدرة على التواصل مع أقرانه ومجتمعه. وقد مرّت هذه الميزة بقفزات تاريخيّة كانت تمثّل ثورات فى التواصل الاجتماعى. كانت البداية فى بلورة الإنسان للغة التخاطب بين البشر. وهذه اللغة تزداد تعقيدا مع التطوّرات التكنولوجيّة والمجتمعيّة. ثمّ كان تطوير الإنسان للغة المكتوبة التى جعلت من الممكن نقل المعرفة فى الإطار الزمنى والمكانى. ثمّ كان اختراع المطبعة التى أسهمت فى انتقال المعلومة بسرعات لم تكن معروفة قبل ذلك. وكانت الثورة الكبيرة الجديدة التى نعيشها اليوم فى تطوير وسائط التواصل الاجتماعى الإلكترونيّة وانتشارها، ما جعل من الممكن لكلّ إنسان أن يتواصل بشكل فورى ومباشر مع كلّ إنسان آخر على امتداد الكرة الأرضيّة، بل ما جعل كلّ فرد قادرا على أن يكون مصدر الخبر وناشره ومُروّجه، بغضّ النظر عن موثوقيّة الخبر! وبذلك فُقِدت المرجعيّة الموثوقيّة وحتّى القانونيّة، ولم يعد المرء قادرا على التمييز بين الحقيقى والمزيّف.
التعقيدات المجتمعيّةأمّا الوضع الآخر فى زيادة التعقيد فى حياة الإنسان، فهو فى هذا التزايد المطَّرِد فى ترابط العلاقات الإنسانيّة على الأصعدة كافّةً: الاقتصاديّة والسياسيّة والمجتمعيّة، بحيث أصبحت الكرة الأرضيّة بكلّ مكوّناتها وأعراقها وامتدادها الجغرافى قرية صغيرة، تتأثّر كلّها بشكلٍ مباشر بما يجرى فى أيّة بقعة منها. وجاءت وسائط التواصل الاجتماعى لتزيد فى بنية هذا التشابك، وتجعل من الصعب اتّخاذ القرار المناسب فى الوقت المناسب وتنفيذه، سواء على مستوى الفرد أم المجتمع أم الدولة أم الإنسانيّة جمعاء.
وقد أدّت هذه التعقيدات المتزايدة إلى مزيد من التعقيد فى العلاقات بين المسبّبات والنواتج، وبين القرار والتنفيذ والمردود. فإلى أين نحن ذاهبون؟!
النص الأصلى: