كفاءة الطاقة.. إنتاجًا وتوزيعًا واستهلاكًا
مدحت نافع
آخر تحديث:
الإثنين 22 أبريل 2024 - 6:50 م
بتوقيت القاهرة
لا يخلو بيت فى مصر هذه الأيام من حديث عن الكهرباء، ربما أكثر من أى وقت مضى فى التاريخ، بما فى ذلك من عاصروا اختراع «توماس أديسون» للمصباح الكهربائى فى أكتوبر من عام 1879! السبب فى ذلك لا يخفى على أحد، فقد اتخذت الحكومة المصرية قراراها بتخفيف أحمال استهلاك الكهرباء، لفترات تزيد على الساعتين يوميًا فى معظم مدن وقرى مصر. القرار الذى اتخذ طابعًا اقتصاديًا يهدف إلى توفير الطاقة للتصدير، يفرض على المستهلكين نمطًا تقشفيًا استثنائيًا، إذ يحرم عموم المواطنين من مصدر مهم لمختلف وجوه النشاط البشرى.
يؤثر ذلك القرار على أداء الأعمال، وجذب الاستثمارات، وحركة الأفراد ورءوس الأموال، والتعاملات المصرفية.. فضلًا عن التأثير على كفاءة الأجهزة الكهربائية والمعدات، بل إن كفاءة عمل شبكات التوزيع ربما تكون قد تضررت من فرط الانقطاع المتكرر للتيار الكهربائى خلال الأشهر الماضية.. كما يؤثر تخفيف الأحمال بطريقة غير مباشرة على إنتاجية المواطن، من خلال تأثيرها السلبى على المزاج العام وما عساه يتسبب فيه من زيادة معدلات الجريمة، وتوتر العلاقات الشخصية، وعلاقات العمل بين الناس.
• • •
الكهرباء انتقلت منذ عقود طويلة من خانة المطالب إلى خانة الحاجات الأساسية فى مختلف بقاع المعمورة. وفى عصر تكنولوجيا المعلومات لم تعد الكهرباء مصدرًا للإضاءة والتكييف والتبريد، أو مدخلًا رئيسًا فى بعض الصناعات الأساسية مثل الألمنيوم، أو محض بديل كفء لتشغيل أفران الصهر والعديد من الآلات والمعدات وخطوط الإنتاج ومحطات رفع وتنقية المياه، منذ انطلاق الثورة الصناعية الأولى فى منتصف القرن الثامن عشر. بل يُعتمد اليوم على الكهرباء فى تشغيل وشحن بطاريات الحواسب الآلية، ومختلف البطاريات الخاصة بالهواتف المحمولة، بما يتوقف عليه إنجاز العديد من الأعمال، ويساعد على محاربة البطالة. وتستخدم الكهرباء فى شحن السيارات الكهربائية وسائر المعدات التى تتجه دول العالم إلى العمل على كهربتها electrification كأحد تجليات انتقال الطاقة energy transition التى يستهدفها العالم للتخلّص جزئيًا من أزمة الاحترار العالمي، والحيلولة دون الإفراط فى استخدام مصادر الوقود الأحفورى.
لكن غالبية المتكلمين عن تحسين كفاءة الطاقة، تقتصر فى مخيلتهم عملية التحسين على توفير الاستهلاك عبر استخدام اللمبات الموفّرة، واستبدال الكهرباء ببعض الألواح الفوتوفولتية فوق أسطح المنازل، لتشغيل السخّانات الشمسية. وعلى الرغم من صحة هذا التصور جزئيًا، فإنه لا يمثّل سوى بعض جوانب تحسين كفاءة الطاقة. ويشتمل تحسين كفاءة استهلاك الطاقة فى المصانع والمنازل على تصميم المبانى ومواقع النوافذ وخامات الزجاج المستخدم فيها، بغرض الاستفادة القصوى من إضاءة الشمس، وتجنّب حرارتها غير المرغوبة. كما يشتمل على استبدال الكهرباء المولّدة بالغاز الطبيعى أو المازوت أو الفحم، بتلك التى يتم توليدها بالطاقة الشمسية بنظام الألوح الفوتوفولتية PV أو عبر العاكسات العاملة على تركيز طاقة الشمس CSP. ويتم تحسين الكفاءة عبر شراء المبردات وأجهزة التكييف الموفّرة للطاقة، والتى تحتوى على خاصية المحوّل Inverter. وتتيح الدولة تلك الأجهزة (متى أرادت تشجيع انتقال الطاقة) بمعاملة جمركية أفضل، وعبر منافذ البيع التابعة لأذرعها المختلفة (الباقية فى السوق إلى حين التخارج بالطبع لصالح القطاع الخاص).
ويتم تحسين كفاءة الطاقة بالتحوّل إلى استخدام الكهرباء كلما أمكن، بدلًا من مشتقات النفط، للحد من الانبعاثات الضارة من جهة، وتحسين الكفاءة الاقتصادية للتشغيل، خاصة لو تم استخدام طاقة الشمس أو الرياح لتوليد الكهرباء. كذلك يمكن للهيدروجين الأخضر (المنتج عبر مصادر خضراء مستدامة) أن يلعب دورًا مهمًا فى تخزين ونقل الطاقة. وتقوم العديد من المصانع بتحسين كفاءة الطاقة من خلال إعادة استخدام الغازات الناتجة عن العملية الصناعية، والتخفيض من حرق الغازات فى الهواء، والتى تمثّل ميزانية كبيرة فى العديد من الصناعات. وعندما كنت أترأس مجلس إدارة الشركة القابضة للصناعات المعدنية، كانت شركة النصر للسيارات إحدى الشركات التابعة لها، وكان هناك مشروع مهم لصناعة سيارات كهربائية بالتعاون مع شريك صينى شهير، على أن توفّر الدولة حوافز للمنتجين والمستهلكين (أسوة بالتجارب الدولية) تتمثّل فى مبالغ مالية مستردة من قيمة السيارة، وحوافز جمركية أخرى.
• • •
تحسين كفاءة الطاقة رهن بتوفير التكاليف اللازمة للتحوّل الأخضر والمستدام، على مستوى المنازل ومنشآت الأعمال الصغيرة والمتوسطة، وعلى مستوى المصانع والقرى والمنتجعات والمدن كذلك. التمويل الميسّر والتدريب والتأهيل والتوعية هى كلها عناصر هامة لنجاح تلك الجهود. وقد أتيح لمصر منح تمويلية من جهات دولية بهدف تحسين كفاءة الطاقة، ومنها منحة مقدمة من KFW الألمانية لإنشاء صندوق تحسين كفاءة الطاقة. وقد كادت تلك المنحة أن تسحب لعدم استغلالها خلال مدى زمنى طويل! لولا جهود عملت على التعجيل بوضع إطار عام لعمل هذا الصندوق، فضلًا عن آلية تمويله، وإنشاء وتشغيل شركات خدمات الكهرباء، التى يمكن أن تلعب دورًا فاعلًا فى تمديد التيسيرات المطلوبة إلى مختلف مشروعات تحسين كفاءة الطاقة على مستوى الأفراد والمؤسسات. وقد شرفت بالمشاركة خبيرًا فى تلك الجهود وفى انتظار تحويل التوصيات الصادرة عن فريق العمل إلى واقع على الأرض.
على مستوى الدولة، تعمل كفاءة استهلاك الطاقة فى سياق متكامل مع جهود ضرورية ولازمة للحد من هدر وفاقد الطاقة على مستوى الإنتاج والنقل والتوزيع. الأمر الذى يتحقق بدخول القطاع الخاص فى مختلف تلك المجالات، واستخدام حافزى الربح والتنافسية كمحرك واقعى لبلوغ تلك الغايات.
كل ذلك لا يمكن أن يؤتى ثماره فى غيبة تخطيط الطاقة، الذى يحول دون تعرّض البلاد لتقلبات أسعار الوقود دون استعداد، كما يحول دون مرور الدولة بفترات من العجز فى القدرات والطاقات، يعقبها فترات من الفائض، دون استثمار فعّال لفترات الفائض للعمل دون اضطراب يذكر أثناء فترات العجز المتنبأ به. هذا النوع من الاستعداد والتخطيط هو جوهر ما أوصى به نبى الله يوسف، عليه السلام، ملك مصر للخروج من السنوات العجاف، حين قام بتأويل رؤيا الملك على نحو ما جاء فى محكم التنزيل، فيما نصه فى سورة يوسف: «قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِى سُنبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِى مِن بَعْدِ ذَٰلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)».
على مستوى المؤسسات، الاستثمار الناجح فى كفاءة الطاقة يقلل من استهلاك الطاقة لكل وحدة إنتاج، وبالتالى يقلل من نسبة تكاليف الطاقة فى إيرادات الشركة. وبالإضافة إلى التأثير الإيجابى على التدفق النقدى للشركات والمؤسسات، فإن انخفاض تكاليف الطاقة يعنى أيضًا انكشافًا أقل لتقلبات أسعار الطاقة، وبالتالى استقرار أرباح الشركات. يمكن للوفورات الأخرى المصاحبة لاستثمار كفاءة الطاقة، مثل انخفاض تكاليف الصيانة أو زيادة الإنتاجية أو ارتفاع قيمة الأصول، أن تعزز من التأثير الإيجابى لتمويل مشروعات تحسين كفاءة الطاقة. ويمكن لخلق القيمة من تلك المشروعات، أى تحسين التدفق النقدى وانخفاض التقلبات، أن يؤدى إلى انخفاض مخاطر التعثّر أو التخلّف عن سداد تكاليف تمويلها.
على مستوى الأفراد، يمكن لتحسين كفاءة الطاقة أن يقلل من التكاليف الجارية لاستخدام مصادر الطاقة المختلفة بتخفيض فواتير الكهرباء والغاز، كما يمكن أن يقلل من اعتماد الفرد على شبكات الكهرباء والغاز التى تتيحها الدولة، لصالح مشروعات خاصة ومحلية خارج الشبكات. وهذا يتطلب إلى جانب التمويل الميسّر والتأهيل.. حوافز أخرى تتعلق بتعاقد الدولة مع منتج الكهرباء بشروط تفضيلية لصالح العميل.
• • •
لن يتحقق أى من هذا لو أن الولاية على مشروعات انتقال الطاقة وتحسين كفاءتها ظلت تحت وزارة الكهرباء تحديدًا، لما عليه الوضع الاحتكارى للشركة القابضة للكهرباء التابعة للوزارة، ولما يمكن ملاحظته من تعارض واضح للمصالح بين الشركة المنتجة للطاقة بالوقود التقليدى فى الأساس، وبين بدائل الطاقة التى من شأنها تخفيض الاستهلاك، وانعكاس ذلك سلبًا على ميزانية الشركة القابضة وشركاتها التابعة، خاصة مع ارتفاع المديونية الدولارية الناشئة عن إنشاء محطات الطاقة بتمويل أجنبى.