بليغ الساحر

سيد محمود
سيد محمود

آخر تحديث: الثلاثاء 22 أبريل 2025 - 7:30 م بتوقيت القاهرة

خلال حياته أثار نجاح بليغ حمدى غيرة المعاصرين له من الملحنين واتهم من أغلبهم بأنه شخص محظوظ ويبدو أن هذا الاتهام ما زال صالحا للاستعمال، ليس فقط لأن ألحانه لا تزال تحظى بنفس الشعبية والانتشار وإنما لأن حياته أيضا ظلت ملهمة أكثر من حيوات الآخرين لعدد من مؤلفى الدراما وكتاب الرواية وإذا كنا جميعا نعرف أن محاولات إنتاج عمل درامى حول سيرته قد فشلت أو تعثرت فإن كتاب الرواية بقوا هم الأكثر حظًا فى التعامل مع حياة بليغ التى صارت مصدرًا للإلهام.

وبعد ما يقرب من عشر سنوات من صدور رواية بليغ من تأليف طلال فيصل عن دار الشروق تصدر السيناريست المتميزة وسام سليمان رواية جديدة حول بليغ عن دار المرايا بعنوان (المزيكاتى.. سيرة روائية) وهى تختلف تمام الاختلاف عن رواية (بليغ) لطلال فيصل التى قرأتها عند صدورها وكتبت عنها محتفيًا بها بما يليق بالجهد الذى بذله مؤلفها الذى يملك مشروعًا مهمًا لكتابة التاريخ الثقافى والفنى لمصر خلال القرن العشرين من خلال شخصيات عاشت حيوات مغايرة لكنها تتقاطع عبر أسئلة الهوية والانتماء وهو هنا يماثل ما يفعله الروائى على بدر فى العراق الذى اختار رواية تاريخ العراق مع الحداثة وإعادة تركيبه فى متخيل سردى يقوم على استعادة سير أو نماذج أو تجارب أبطاله مع الوجودية أو الشيوعيين أو نظريات ما بعد الاستعمار التى تغطى تحولات صاحبت الانتقال من عصر الملكية وصولاً لحكم البعث فى تحولاته المختلفة.

 لعل طلال فيصل أراد أن يفعل نفس الشىء عندما بدأ بكتابة رواية (سرور) حول نجيب سرور وأعقبها بـ(بليغ) وكان يخطط لكتابة رواية ثالثة حول سيد قطب، ولا أعرف إلى أين انتهى مصيرها فى ظل انشغال الكاتب بتجربة إقامته العلمية فى ألمانيا كطبيب نفسى فضلاً عن المصير الذى آلت إليه جماعة الإخوان المسلمين.

لعل الجانب الذى ميز روايته (بليغ) هو ذاته الذى يؤكد اختلافها عن رواية (المزيكاتى) لأن الذات الساردة عند طلال تحضر بقوة فى مقابل سيرة البطل (بليغ) وتأتى إلى عالمه بأسئلتها وتجاربها الحياتية وتشتبك مع نسيجها وبالتالى فإن هذه الذات ترى تشظيها وانقسامها فى استعارتها لسيرة (بليغ) كما أنها تركز على حقبته الباريسية أكثر من أى شىء آخر.

أما تجربة وسام سليمان فإنها ترغب قبل أى شىء آخر فى التمسك بحكاية بليغ بما فيها من إلهام يتعلق بتوهج الموهبة وتعثرها وارتباكها بسبب تكوينها الإنسانى الهش بالغ الحساسية والرهافة، لذلك تعزز وسام من طابع الحكى لذلك تجاهر بأن ما تريده هو كتابة سيرة روائية لشخصية معروفة وحاضرة فى تاريخنا لذلك فإنها لم تشأ الخروج عن الإطار المرسوم سلفا للشخصية وفضلت العمل على تنمية إحساس القارئ بتفرد التركيبة الإنسانية لبطلها الذى قدمته كبطل معذب حائر قلق لديه أسئلة وجودية تتخطى الصور التى ينتجها الآخرون حول موهبته.

الواضح أن عنوان السيرة الروائية أتاح لوسام مساحة كبيرة للتحايل على الطابع التوثيقى المخادع داخل النص وتعزيز التخيلى من خلال اختراع الحوارات التى يمكن أن تقدمها الشخصيات الأخرى.

يعرف جمهور القراء اسم وسام سليمان ككاتبة سيناريو معروفة وناجحة  قدمت أعمالاً متميزة منها (أحلى الأوقات/ حب فى شقة مصر الجديدة/ بنات وسط البلد/ فتاة المصنع) إلا أن ما يجهله البعض هو أن كاتبة السيناريو لها خبرة مهمة فى كتابة القصص القصيرة وكانت اسمًا مهمًا من بين كاتبات جيل التسعينيات لولا أنها اشتغلت بالسينما بعد تخرجها فى معهد السينما، لذلك فإن عودتها للكتابة الأدبية هى استعادة لتقنيات تعرفها لكنها أرادت أن تحتفظ بأهم ما معرفتها بالقصة وبفن السيناريو فهى تعزز الحكاية وتمد أكثر من خيط لمسارات ثانوية داخل النسيج السردى الذى يدور حول حياة بليغ لكنها تجاور بين أكثر من زمن للسرد وتنجح دائمًا فى تضفير المسارات والمصائر بخبرتها الفريدة التى واجهت تحديات أولها تخطى الطائع الوثائقى مع إيجاد معادل بصرى لصورة تراها وترغب فى تحويلها إلى نص مكتوب بتقنيات السرد الأدبى دون التخلى عن أدوات كتابة السيناريو السينمائى وبالذات فيما يتعلق بتقطيع المشاهد وكثرة الحوارات وتقاطع المصائر والانتقال من حقبة لأخرى لتكسر توقعات القارئ الكسول دون الالتزام بتقسيم الرواية إلى فصول أو أبواب.

تمتد أحداث الرواية من الخمسينيات وحتى التسعينيات دون أن تفقد الحساسية أو الرقة المعتادة فى أعمالها التى تستعيد منها علامات نعرفها فى أفلامها حيث تؤدى الأصوات الغنائية أدوارًا فى حفز مخيلة الأبطال وتركز وسام روايتها على شخصيات ظلت فى حياة بليغ وظلت رغم نجاحها ذات تكوين هش تعتنى قبل أى شىء بالضعف الإنسانى وتواطؤ مع هزائمها الصغيرة وتعاملها بمحبة لا تخجل منها وهكذا كان (كامل الشناوى وعبد الرحيم منصور ومحمود عوض) الذين نراهم فى الرواية كما أحببناهم.

 تنتصر وسام فى روايتها للخيال، كما تنتصر للحكاية وتعرف كيف تتحرر من الوثائقى وتحرر بطلها من أسر التاريخ وتعرف متى تفعل ذلك؛ لأنها معنية بالابتكار وتأمل المصائر، كما لا تكفى بالدوران حول شخصياتها ومن ثم فقد جاءت روايتها شبيهة بالسجاد اليدوى الذى يصنعه فنانى الحرانية على نول يدوى، فباستطاعتك تتبع الخطوط ورؤية عقدتها عند الأطراف لكن الإبداع فيها يأتى من التمهل فى إبداعها ومن الصبر فى الحوار القائم بين مبدعها وخيالها وسعيه الدائم لإيجاد حلول لما يواجهه من تحديات تنتهى إلى إبداع لوحة متكاملة تقوم على رؤية كلية للوجود وهكذا فإن ما يصل لقارئ الرواية عند نهايتها صورة لعصر وليست رواية عن شخص استثنائى ساحر مثل بليغ.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved